هل تنجح الدول الغربية في إبقاء أوكرانيا «على قيد الحياة»؟
عاد الرئيس الروسي لتصدر المشهد الإعلامي بعد جملة من التصريحات في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، والتي أكدت مجدداً أن التخبط الغربي الذي يسيطر على المشهد يقابله رؤية استراتيجية روسية واضحة تتطور مع تطور المشهد الاقتصادي والسياسي والعسكري، أما الغرب الذي أقرّ بالآجال الزمنية الطويلة لهذه الحرب، يعجز حتى اللحظة عن وضع استراتيجية مناسبة لسيناريو كهذا، مما يجعله عرضة لتحمل نتائجه الكارثية القادمة.
ألقى الرئيس الروسي في 17 حزيران الجاري كلمة ضمن فعاليات منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، وعلى الرغم من أن محاور حديث الرئيس الروسي تشابهت في خطوطها العريضة مع العديد من تصريحاته السابقة، إلا أنه أثار بعض النقاط الجديدة في أثناء الكلمة التي استمرت أكثر من 70 دقيقة حول جملة من القضايا.
الولايات المتحدة، ودول أوروبا التابعة
اتهم بوتين في حديثه الموسّع دول «المليار الذهبي» بأنها لا تزال تعتبر كل الدول الأخرى مستعمرات من الدرجة الثانية. وهو ما لا يتناسب مع إسهام هذه الدول في الإنتاج العالمي، وأشار إلى أن العقلية التي سيطرت على السلوك الأمريكي في العقود الماضية، لم تعد قابلة للتطبيق، مشيراً إلى أن «الولايات المتحدة اعتبرت نفسها رسول الرب على الأرض عند إعلانها الانتصار في الحرب الباردة» في الوقت الذي ذكّر الرئيس الروسي بأنها لم تعد تتمتع بالقوة الاقتصادية التي كانت عليها سابقاً، وقال: إن الولايات المتحدة تحولت إلى مستورد بعد أن كانت المورّد الأساسي للكثير من السلع الغذائية، وأشار إلى أن روسيا لا تتحمل مسؤولية التضخم الذي تعاني منه واشنطن، التي نما المعروض النقدي فيها بنسبة 38% خلال العامين الماضيين، حسب ما جاء في كلمة الرئيس، والتي تطرقت أيضاً إلى أن الهدف من خلاله طباعة هذا الكم من النقود لشراء السلع الغذائية حول العالم، مما يزيد من تعقيد الوضع الحالي.
إلى جانب الأرقام الملفتة التي قدمها بوتين كدلائل على تعافي الاقتصاد الروسي، أشار إلى التكلفة الباهظة التي تتحملها أوروبا في هذا النزاع، حيث بلغت خسائر الاتحاد الأوروبي المباشرة من العقوبات على روسيا 400 مليار دولار، حسب الإحصاءات الرسمية الروسية، ورد الرئيس الروسي ذلك إلى فقدان الاتحاد الأوروبي لسيادته تماماً، وأنه ينفذ كل ما يملى عليه من فوق حسب تعبيره، واعتبر أن هذا السلوك يضر في نهاية المطاف بمواطني الاتحاد واقتصاده، مما سيؤدي إذا استمر الوضع على حاله إلى تصاعد الراديكالية، وتغيير النخب الحاكمة في المستقبل وهي إشارة شديدة الخطورة، وتحديداً أنها تصدر بشكلٍ رسمي من روسيا.
استعدوا لحرب طويلة!
يتغير مضمون الخطاب السياسي لعدد من السياسيين الغربيين البارزين، وتستحق تطوراته المتسارعة رصداً دائماً لما تحمله من دلائل على نتائج الصراع العالمي الجاري، وفي هذا السياق أعلن كلّ من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ في مناسبات منفصلة، أن على الغرب الاستعداد لمواجهة طويلة في أوكرانيا قد تمتد لسنوات. ففي مقال نشرته صحيفة «صنداي تايمز» كتب بوريس جونسون: إن الغرب «يجب أن يتأقلم مع فكرة أن الحرب في أوكرانيا ستكون طويلة الأمد»، متهماً موسكو بـ«السعي لاستنزاف الغرب». وأضاف: أن ضمان تمتع أوكرانيا بالقوة الاستراتيجية الضرورية للبقاء على قيد الحياة «يجب أن يكون من مسؤولية المملكة المتحدة وأصدقائها» حسب تعبيره. وكتب رئيس الوزراء، أن دفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية سيتطلب تمويلاً مستمراً، ومساعدة فنية مما يفرض التخطيط لسنوات قادمة، هذا إلى جانب استمرار توريد الأسلحة إلى أوكرانيا وتدريب عسكرييها في معسكرات تدريب في دول أوروبية أخرى.
وإلى جانب هذه الإعلانات الرسمية، نقلت بعض وسائل الإعلام الأمريكية، أن الإدارة الأمريكية كانت قد وضعت احتمال تحول هذا الصراع إلى صراع طويل الأمد، ولكن ما لا تقوله وسائل الإعلام، هو أن واشنطن وضعت وعملت على هذا الاحتمال شرط ألا تتحمل تبعاته بشكلٍ مباشر، لكن النتائج حتى الآن تشير بوضوح إلى حجم التورط الأمريكي في هذا النزاع، والأهم من ذلك معنى أن تنتصر روسيا في نهاية المطاف.
الغرب يتورط أكثر
ينخرط اليوم المحور الغربي كاملاً في هذه المعركة بشكل شبه مباشر، فأوكرانيا تتلقى مساعدات عسكرية من كل دول حلف الناتو، والتي تشكّل جزءاً من مجموعة تضم حوالي 50 دولة تنخرط بشكل ما في هذا الصراع، وترسل بشكل متواصل شحنات الأسلحة والمساعدات الاقتصادية إلى أوكرانيا، وتشكّل الإعلانات الروسية المتكررة حول تصفية أو أسر مقاتلين أجانب على الجبهة إشارة جديدة إلى تواجد بشري نوعي، فالدول الغربية إلى جانب إمدادات الأسلحة تسهم في قيادة العمليات عن بعد، وفي الميدان بشكل مباشر، هذا بالإضافة إلى دورها في تدريب القوات الأوكرانية في العقد الماضي وحتى اللحظة، كل هذا يشكّل مأزقاً كبيراً بالنسبة لواشنطن، وخصوصاً أمام الثبات الذي تظهره القوات الروسية على الجبهة، على الرغم من الانخراط العسكري المحدود من حيث الكم. أي إن إعلان الغرب حول تحول هذه المعركة إلى حرب طويلة يعني إقراراً من جهة بعجزه عن تحقيق نصر عسكري، وخصوصاً أن تصريحات المسؤولين الغربيين التي تميل إلى الواقعية باتت تركز أكثر على «مفاوضات» ويعني من جهة أخرى، أن تحقيق أهدافه من هذه المعركة باتت على المحك.
بعض الاحتمالات على الطاولة
الاحتمالات التي تواجهها واشنطن والدول الأوروبية تزداد صعوبة، ويمكن تحديد بعض ملامحها، فإذا كان انخراط واشنطن محدوداً حتى اللحظة كما يقول البعض، فهذا يعني أن هذه الدرجة من الانخراط لا يمكن أن تؤدي إلى النتائج المرجوة، فالتقديرات الغربية تقول: إن على الدول الداعمة لأوكرانيا مضاعفة هذه الإمدادات حتى تضمن تحقيق نتائج ملموسة ونوعية، وهو ما يبدو مستحيلاً، وخصوصاً أن الفاتورة تشكل عبئاً حقيقياً على كل الدول، لا بل إن بعض مراكز الأبحاث تشير بوضوح إلى أن زيادة المساعدات العسكرية باتت تشكّل خطراً على مخزون بعض الدول، التي أنفقت كميات كبيرة من الأسلحة في أوكرانيا، مما بات يشكل تهديداً لأمنها القومي، وتشير دراسة منشورة في مركز أبحاث طوني بلير إلى أن الولايات المتحدة أنفقت ثلث مخزونها من صواريخ جافلين المضادة للدروع، وأن الوضع الاقتصادي العالمي لن يساعد في تحريك عجلة الإنتاج العسكري بالشكل المطلوب، فالدارسة المشار إليها والتي تبحث في إمكانية ما تسميه «سد ثغرات الأسلحة في أوكرانيا» لا تبدي الكثير من التفاؤل، فالفكرة الأساسية هي أن صمود أوكرانيا بات مرتبطاً بضخ كميات كبيرة من الأسلحة في ساحة المعركة، وهو ما يثبت الواقع صعوبة القيام به، فمن جهة تعاني هذه الإمدادات من صعوبات لوجستية، وتبقى عرضة للاستهداف من قبل الجيش الروسي، ومن جهة أخرى لا تستطيع مخازن الأسلحة تأمين الكميات المطلوبة في الوقت المحدد، وتحديداً، أن أوكرانيا تحتاج إلى أنواع محددة من الأسلحة التي تنتمي إلى المعسكر الشرقي، فالجيش الأوكراني لا يستطيع استخدام الذخائر الغربية لأنها لا تتوافق مع الأسلحة التي يملكها، وفي الوقت نفسه لا يمكن تصدير منظومات جديدة من السلاح الغربي دون تدريب القوات الأوكرانية على استخدامها وصيانتها، وهو ما يحتاج وقتاً طويلاً نسبياً، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه المسألة تتطلب حلاً سريعاً، هذا بالإضافة إلى بعض المخاوف من تصدير أسلحة نوعية جديدة يمكن أن يشكل وقوعها بأيدي القوات الروسية مشكلة بالنسبة للدول الغربية.
«أوكرانيا تبتلع المزيد»
في تصريحات نائبة وزيرة الدفاع الأوكراني آنا ماليار قالت: إن أوكرانيا استلمت مقدار 10% فقط من مما كان مطلوباً، ونشرت بعض الجهات الرسمية الأوكرانية أرقاماً توضح حجم الفجوة بين إمدادات الأسلحة التي تلقتها أو التي وعدت بها، مع تلك التي تحتاجها، ونشرت أيضاً بيانات تشير إلى التزام الدول بتقديم ما وعدت به. الأهم في هذه المسألة هو: أن الدول التي انخرطت في هذا الصراع لن تكون قادرة على تقديم المزيد لفترة طويلة، حتى أن بعضها لم يسدد ما وعد به حتى اللحظة، وتعتبر واشنطن على رأس هذه القائمة.
في مقال بوريس جونسن المشار إليه، قال أن روسيا تسعى لاستنزاف الغرب، وهذا ما أصبح واقعاً بمجرد إقراره بأنهم أمام حرب طويلة الأمد، الغرب لا شك أن الغرب لا يزال يملك الكثير من الإمكانات لزجها في هذا الصراع، فالهدف الأمريكي المعلن هو إغراق أوكرانيا في الأسلحة، وهو ما سيلحق خسائر كبيرة بروسيا أيضاً لكن اللحظة هذه تبرهن مجدداً أن إدامة الاشتباك تتطلب مشاركة أمريكية أكبر وهو ما يتناقض مع مصلحة وإمكانيات واشنطن. فبدلاً من أن تنشغل روسيا على جبهة أوروبا وتنتقل واشنطن لمحاولة تطويق الصين يفرض الواقع سيناريو مختلف تكون فيه واشنطن غارقة في مستنقع أوكرانيا مع أتباعها الغربيين في مواجهة موسكو التي تتمتع بشبكة إمداد اقتصادي غير محدودة بمساعدة حلفائها، لا بل إن السيناريو الأسوأ بالنسبة لواشنطن أن تستغل الصين انشغال واشنطن وتقوم بخطوات جريئة في آسيا من شأنها تسريع حسم المعركة النهائية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1075