فنلندا والسويد… لا مكان للحياد في الحروب الحاسمة

فنلندا والسويد… لا مكان للحياد في الحروب الحاسمة

تُثبت الأحداث التي يعيشها العالم يومياً، أن الحرب في أوكرانيا كانت الشرارة الأولى لسلسلة من تطوراتٍ لن تهدأ قبل أن يتغير شكل العالم الذي ألفناه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وإن كان البعض يُصر على تفسير كل ما يجري من البوابة الأوكرانية وحدها، فذلك يفرض علينا «نقض الفرضية» قبل بدء النقاش حول أي تطور جديد، وهو ما ينطبق بالضرورة على فنلندا والسويد!

بعد أن تقدمّت كلّ من فنلندا والسويد في يوم الأربعاء 18 أيار الجاري بطلبين رسميين لانضمام بلديهما إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» اعتبرت معظم الدول الغربية ووسائل إعلامها التابعة أن الخطوة هذه تعتبر استجابة مباشرة للحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن الحرب لعبت بالتأكيد دور في هذه المسألة، إلا أنها لم تكن إلّا زيتاً جديداً يرمى فوق النار المشتعلة أصلاً. هذه الخطوة- والتي تلقى معارضة تركية على الأقل- أمامها عقبات بعضها لوجستي، وبعضها الآخر سياسي يرتبط تحديداً بتأثير هذه الخطوة على أوروبا في هذه اللحظات، فما هي نتائج رد الفعل الروسي الذي تتضح ملامحه تدريجياً؟

«لحظة تاريخية» فعلاً

قدّم كل من سفير فنلندا لدى الناتو كلاوس كورهونين، وأكسل ويرنهوف سفير السويد إلى الحلف رسالة إلى أمينه العام ينس ستولتنبرغ، والتي تعد الخطوة الأولى وليست الأخيرة لانضمام البلدين للحلف رسمياً، وبعد انتهاء مراسم اللقاء، نشر موقع الناتو تعليقات لستولتنبرغ، قال فيها: «نتفق جميعاً أن هذه لحظة تاريخية ويجب علينا انتهازها». وتعتبر هذه الكلمة نقطة جيدة للانطلاق في تفسير هذا الحدث، فهذه اللحظة تعتبر تاريخية فعلاً، ولا تعد تعبيراً مبالغاً فيه على الإطلاق، فاللحظة_ التي تسلم فيها ستولتنبرغ هذه الرسالتين- كانت إعلاناً صريحاً عن النية في إسقاط صفة الحياد عن البلدين، والتي رافقتهما لعقود بالنسبة لفنلندا، وقرون بالنسبة للسويد، وسمحت لهما بالتطور في كافة المجالات ودون خلافات تذكر مع جيرانهم. فالسويد وكنتيجة لجملة من التطورات السياسية والعسكرية في أوروبا تحولت منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر لتكون دولة محايدة، ولم يُكسر هذا الحياد حتى في الحربيين العالميتين عام 1914 و1939. وأما فنلندا والتي كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية، واستقلت عنها بعد الثورة البلشفية في عام 1917 فقد انخرطت بشكلٍ نشط في الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تقاتل إلى جانب الحلفاء! بل على العكس تماماً، حاربت إلى جانب النازيين ضد الاتحاد السوفييتي الذي فرض عليها في معاهدة الاستسلام التزام الحياد.
هذه اللمحة التاريخية الموجزة تطرح سؤالاً أساسياً حول الدافع الفعلي لخروج فنلندا والسويد عن الحياد، فإذا قلنا: إن الحرب الأوكرانية هي السبب.. فلماذا لم تكن الحروب العالمية سبباً كافياً بالنسبة للسويد!؟ وخصوصاً أنها كانت تهديداً لا لأمن أوروبا فحسب بل للعالم أجمع. ولماذا تتحرك فنلندا بعد الفاتورة الكبرى التي تكبدتها بقتالها إلى جانب النازيين في هذه اللحظة بالذات؟ السلوك الذي يتبعه كلا البلدين لا يخرج عن مجمل الإستراتيجية الأوروبية التي أصبح جلياً أنها توضع على أساس مصالح واشنطن، وباتت النخب السياسة المسيطرة في هذه البلدان تميل إلى مواجهة شعوبها، وتهديد مصالحها الوطنية بدلاً من مواجهة الولايات المتحدة.

لماذا إنهاء الحياد الآن؟

ربطّ سعي دولتي شمال بحر البلطيق للانضمام إلى الناتو بالولايات المتحدة لا يحتاج الكثير من الجهد لإثباته، بل يشير بوضوح إلى حجم الأزمة الغربية، فعلى الرغم من أن الحرب تلحق أضراراً بروسيا في كافة المستويات، إلا أن الوضع على الجبهة المقابلة يبدو أسوأ بكثير، وخصوصاً أن الدول المنخرطة بشكلٍ شبه مباشر في هذا الصراع لم تعد قادرة على تأمين المطلوب، ولهذا بات من الضروري بالنسبة لواشنطن توريط «رموز الحياد العالمي» في هذا النزاع، أملاً في توسيع مساحة الحريق ونتائجه على الدول الأوروبية وروسيا معاً. هذا بالإضافة إلى أن الحدود البرية الكبيرة التي تربط بين فنلندا وروسيا- والتي تصل إلى 1300 كم- من شأنها أن تزيد التهديد لروسيا وتوسع احتمالات الصدام بشكلٍ كبير، مما يفرض تغييرات في التوزيع الاستراتيجي للقوات الروسية داخل أراضيها. ومن جانب آخر تسعى واشنطن من خلال هذه الخطوة إلى رفع الضغط في بحر البلطيق، ورفع الضغط على طريق بحر الشمال أملاً في تقليص النفوذ الروسي فيه.

ملامح الرد الروسي

بعد تحذيرات متكررة من قبل روسيا واستنكارٍ لهذه الخطوة، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بعد يومين من تقديم طلب الانضمام عن الإجراءات العسكرية الروسية الجديدة، كرد على هذه الخطوة، والتي تقوم على أساس تدعيم «المحور الاستراتيجي الغربي» عبر تحسين تشكيلات القوات، وإنشاء 12 وحدة عسكرية خاصة في المنطقة خلال ستة أشهر، وأشار شويغو إلى أن هذه الإجراءات ستترافق مع إمداد القوات الروسية بأسلحة ومعدات حديثة تصل حسب الخطط الموضوعة إلى أكثر من ألفي قطعة يفترض تسليمها خلال المدة ذاتها. واستعرض شويغو في كلمته- خلال اجتماع في وزارة الدفاع في 20 أيار الجاري- تصاعد أعمال التهديدات العسكرية، وكان أبرزها: الدخول المتكرر للبحرية الأمريكية إلى بحر البلطيق والمزودة بأسلحة صاروخية موجهة، وقد نفذت هذه السفن حسب وزير الدفاع الروسي ست مهام بالقرب من منطقة كالينينغراد الروسية، ليصل عدد هذه الاستفزازات إلى 24 منذ عام 2016. وكشف الوزير عن ارتفاعٍ في مستوى جاهزية القوات الروسية المنتشرة عند الحدود الغربية بمقدار 25% بالمقارنة مع إحصاءات العام الماضي، وازداد عدد المهام التدريبية القتالية المنجزة من قبل سفن بحر البلطيق الروسي بنسبة 42% في الفترة ذاتها.

ملمح إضافي

شكّل الرفض التركي- لانضمام البلدين إلى حلف الناتو- نقطة سجال، فقد أعلنت تركيا رسمياً رفضها لهذه الخطوة، ووضعت جملة من التحفظات على سلوك الدولتين في جملة من المسائل. وقد تداولت وسائل الإعلام التركية، وبعض تصريحات المسؤولين جملة من المسائل التي تطلبها تركيا قبل قبولها المزعوم طلب انضمام فنلندا والسويد، والتي ترتبط بمعظمها في علاقات البلدين مع حزب العمال الكردستاني، وبعض القوى الكردية في المنطقة، بالإضافة إلى وجود عناصر مقربة من حركة غولن المعارضة التي قادت محاولة الانقلاب ضد الرئيس التركي سابقاً، ويضاف إلى هذه المطالب مجموعة من المسائل التي تخص التسليح، سواء تلك التي ترتبط بحظر التسلح التي تفرضه بعض الدول على تركيا، وأبرزها: الولايات المتحدة، التي ألغت المشروع المشترك لتطوير طائرات F35 بعد شراء تركيا منظومة s-400 الدفاعية الروسية.
هذه القضايا، والتي يجري نقاش بعضها على مستوى رسمي بين البلدان المعنية، من شأنها مفاقمة التصدعات داخل الحلف، فهذه المسألة حتى وإن جرى حلها، أظهرت مجدداً موقف بعض القوى من وجود تركيا نفسها ضمن الحلف، سواء أكانت هذه الأصوات أصواتاً غربية أو تركية، ففي الوقت الذي ترى فيه بعض القوى الغربية، أن سلوك تركيا اتسم في السنوات الماضية بالابتعاد التدريجي عن مصالح الحلف، وإن موقعها الطبيعي سيكون إلى جانب روسيا والصين، ويرى آخرون من داخل تركيا أن حلف الناتو ساهم برفع المخاطر الأمنية داخل تركيا، وتشير بعض التلميحات إلى أنه مسؤول بشكل أو بآخر عن محاولة الانقلاب. كل هذه المسائل حاضرة وبقوة حتى قبل هذه المواجهات، وتدرك واشنطن أن ضخ قواتها الاحتياطية والمحايدة في هذا الصراع سيشكل ضغطاً على روسيا دون شك، ولكنه في الوقت نفسه سيزيد من حدة التناقضات داخل التحالفات الغربية المتصدعة أصلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1071
آخر تعديل على الإثنين, 23 أيار 2022 13:35