«كيف يمكنني أن أكون نازياً؟» زيلينسكي يسأل ونحن نجيب!

«كيف يمكنني أن أكون نازياً؟» زيلينسكي يسأل ونحن نجيب!

يرى البعض، أن الحديث عن «النازية الجديدة» ما هو إلا جزء من الدعاية الروسية لتبرير دخولها الحرب في أوكرانيا، وتبدو هذه الرواية مغرية حقاً ﻷنها تكفي لاستنهاض مشاعر مدفونة في صدور كل من عانى من الحركات الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يدفع البعض للتشكيك بصدق هذه الرواية واعتبارها جزءاً من «البروباغندا الروسية»!

يمكننا تقديم إجابة بسيطة قبل الوقوف عند بعض نقاط هذه المسألة، وتلك الإجابة لن تكون إلّا أن الحركة النازية الجديدة في أوكرانيا ليست بالطبع من بنات أفكار «ماكينة الدعاية الروسية» بل هي نتيجة لظروف خاصة حرصت الاستخبارات الأمريكية على تغذيتها والاستفادة منها.

التاريخ ذلك الحاضر بيننا

يعلم الجميع أن انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يحمل هدوءاً مستداماً في كوكبنا، فسيناريوهات الحرب الباردة (التي جرى تصويرها بأحسن الأحوال بوصفها صراعاً أعمى بين القوى النووية) شكّلت سيناريوهات سوداء وقصص رعبٍ حقيقية لسكان هذا الكوكب، وخصوصاً بعد أن بات واضحاً أن السلاح الذي سيستخدم في أي صدام بين القوى العظمى لن يكون إلّا سلاحاً نووياً، ذلك السلاح الذي بات مكدساً بما يكفي لتدمير الأرض عدة مرات! لكن إلى جانب الحرب الباردة التي سيطرت أخبارها على وسائل الإعلام وحازت الجزء الأكبر من الأضواء، كان تجري تحت الطاولة عملية طويلة ومركزة لإعادة كتابة تاريخ الحرب التي انتهت لتوها، والتي لا يزال بعض من شهدها يعيشون بيننا! وكان الغرض من هذه العملية، هو إعادة تلميع بعض النازيين الذين سيوكل إليهم لاحقاً إتمام ما فشلت فيه ألمانيا النازية.
واليوم، بعد أن رُفعت السرية عن كثير من الوثائق الأمريكية التي تعود لفترة ما بعد الحرب العالمية، بات بإمكاننا النظر بشكل مفصل إلى الحالة الأوكرانية، والتي تطورت فيها بالفعل الجماعات «النازية الجديدة» ولكن ما يثير الانتباه حقاً، هو أن هذه الجماعات لم تعد مجرّد جماعات متطرفة تقوم ببعض الأعمال التخريبية، بل باتت جزءاً وازناً في القرار السياسي الأوكراني، وبات مقاتلوها وبشكلٍ رسمي جزءاً من الجيش الأوكراني النظامي، بل يجري تحويلها إلى «منظمات أهلية» حيث يمكن تجنيد الأطفال والمراهقين ضمن صفوفها، ليتلقوا ضمنها تدريبات بدنية وعسكرية خاصة، ويخضعون لنوع خاص من الإعداد النفسي والسياسي، حيث يتعلمون استخدام الأسلحة والمناورات العسكرية، وفي الليل يتحلقون حول النار يغنون فرحين «متمنين الموت للروس»، وقد أصبحت هذه النشاطات النازية مكشوفة إلى تلك الدرجة التي يمكنك مشاهدتها في أحد تقارير NBC news الأمريكية والمنشور في عام 2014.

زيلينسكي وفن تسطيح الأمور

بعد أن أعلنت روسيا وبشكلٍ رسمي، أن أحد أهداف عمليتها العسكرية في أوكرانيا هو القضاء على الحركات النازية الجديدة فيها، خرج الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليرد على هذه التصريحات قائلاً: «قيل لكم إننا نازيون، لكن هل يمكن لشعب فقد أكثر من 8 ملايين شخص في المعركة ضد النازية أن يدعم النازية؟» وأضاف: «اشرحوا ذلك لجدي الذي خاض الحرب بأكملها في مشاة الجيش السوفييتي، ومات عقيداً في أوكرانيا المستقلة». أثرت كلمات زيلينسكي بعقول الملايين، وانتشرت بشكلٍ واسع جداً، وجرى الترويج لفكرة ساذجة أخرى، أن ديانته اليهودية تكفي لتبرئته من هذه التهمة! لكن الأمور في الواقع أكثر تعقيداً من كلمات زيلينسكي التي تنفع لتكون قصة للطلاب في المدرسة الابتدائية، فظهر في أوكرانيا ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية مجموعة من القوميين المتطرفين الذين قاتلوا إلى جانب النازيين الألمان، وأصبح المقاتلون المتطرفون هؤلاء إحدى الدعائم الحقيقية للجيش النازي، وتحديداً في أثناء حملته لاحتلال الاتحاد السوفييتي، فقاتل القوميون المتطرفون الأوكران ضد السوفييت، وارتكبوا مجازر لا تزال تطاردهم حتى اليوم، إذ قامت هذه المجموعات بعمليات تطهير عرقي شملت كثيراً من الشعوب التي تشترك معهم في الأرض، وتقول التقديرات: إن أكثر من 200 ألف شخص قتلوا ضمن هذه المجازر الجماعية، وكان أشهرها بابي يار، ولفيف، وغاليسيا الشرقية.

من هو ستيبان بانديرا

ارتبطت الحركة القومية الأوكرانية المتعاونة مع النازية بمجموعة من الرموز الذين لم يعد بالإمكان رفض عمالتهم للنازيين، أمثال سيء الصيت ستيبان بانديرا، والذي كان مؤسس الذراع العسكري للحركة القومية الأوكرانية، وبعد تحرير أوكرانيا من ألمانيا النازية، قام السوفييت بحظر أفكاره، وملاحقة أتباعه الذين استمروا بخوض المعارك ضد السوفييت، حتى بعد هزيمة ألمانيا النازية، وقاموا بتنظيم حرب عصابات ضد الجيش الأحمر حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، المثير للانتباه حول بانديرا تحديداً، هو أنه لم يكن القائد الوحيد للنازيين الأوكران، ولكنه تحوّل لأيقونة بالنسبة لهم، ولذلك أدركت الولايات المتحدة أن الحفاظ عليه يعتبر أمراً ملحاً، وقد كشفت الوثائق الأمريكية التي رفعت السرية عنها، أن الولايات المتحدة وعلى الرغم من معرفتها بالماضي الإجرامي لهؤلاء القوميين المتطرفين إلّا أنها رأت ضرورة في حمايتهم والحفاظ على علاقة متينة معهم بوصفها «ضرورة من ضرورات الحرب الباردة»، أي أن وكالة الاستخبارات الأمريكية ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت تعمل بشكل ممنهج على الحفاظ على هذه الحركة التي قاتلت إلى جانب هتلر أملاً في أن يتم استخدامهم في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي وضد روسيا لاحقاً.
نجحت واشنطن في إبعاده عن المحاكمة إلى جانب قائمة طويلة من مجرمي الحرب النازيين، ونقل بانديرا إلى «الغرب الديموقراطي» وعاش في ألمانيا الغربية في مدينة ميونخ باسم مستعار وتحت حراسة مشددةـ إلى أن نجح- على الأرجح- عميل من عملاء الكي جي بي باغتياله في 1959.

1061-27

 

بانديرا حاضراً في أوكرانيا

على الرغم من تاريخه الأسود والمعروف، إلا أنه ظل حاضراً في صفوف مناصريه المنتشرين في غرب أوكرانيا بشكل خاص، لا بل إنه كان حاضراً في أذهان الحركة القومية الأوكرانية وتشكيلاتها السياسية العسكرية، وفي الوقت الذي كانت أعلام الحركة الحمراء والسوداء والصلبان النازية المعقوفة حاضرة في أوكرانيا، وتحديداً في مظاهرات 2014 وما تلاها، إلّا أن الموقف من هذا النوع من الرموز رافق الانقسام السياسي الذي شهدته أوكرانيا تاريخياً، فالرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو والمدعوم غربياً، والذي وصل إلى السلطة بعد ما يسمى «بالثورة البرتقالية» أعلن منح بانديرا لقب البطل القومي لأوكرانيا، وجرى وضع نصبٌ تذكاري للمجرم النازي في البلاد التي عانت من جرائمهم البشعة، إلى أن وصل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى السلطة في 2010 حيث قام بسحب لقب «البطل القومي» الذي منحه يوشينكو لبانديرا وأزال التمثال.
هذا الانقسام حول الموقف من بانديرا لا يعتبر مجرد انقسام سياسي، فالولايات المتحدة التي حرصت على الحفاظ على هذا «الرمز» فعلت هذا لهدف واضح، وهو تحويل أنصاره إلى جنود جدد للفاشية، فهؤلاء وبسبب تنامي النزعة القومية، وتحت تأثير الإفقار الذي تعرضت له أوكرانيا بعد أن جرى نهب ثرواتها، باتوا يمثلون جيشاً من المهمشين، ونجحوا باستقطاب المتطوعين للانضمام إلى صفوفهم من مناطق أخرى في أوروبا الشرقية أو غيرها، ليتحولوا بذلك إلى أدوات جاهزة للاستخدام من قبل الفاشية العالمية.

«آزوف» رسمياً في الجيش الأوكراني

تعد أبرز نقاط التحول النوعية في هذا الحدث، هو ما جرى في 2014، فبعد أن كان الفاشيون الجدد يقومون بالمسيرات والعروض العسكرية في شوارع أوكرانيا رافعين صور بانديرا إلى جانب أعلامهم وشعاراتهم النازية بدأوا مجدداً يمارسون الإرهاب ضد القوميات والأعراق الأخرى، وباتوا يشاركون بالأعمال العسكرية ويظهرون بوضوح على الساحة السياسية، وارتبطت بعض الجرائم البشعة باسمهم، جرائم كتلك التي نفذها رموزهم في فترة الاحتلال النازي لأوكرانيا، ربما تكون أشهرها حادثة أوديسا، التي قاموا فيها بحصار مبنى النقابات الذي التجأ فيه مئات من المدنيين، وجرى إشعال المبنى من قبل النازيين الجدد ومنعوهم من الخروج، ليتم حرق العشرات في داخله وهم أحياء.
شكّل النازيون الجدد ميليشيات مدربة ومدعومة غربياً، وباتوا يخوضون القتال في شرق أوكرانيا دون صفة رسمية، وكانت ما تعرف باسم «كتيبة آزوف» أبرز هذه الميليشيات، التي باتت تلقى ترحيباً رسمياً، حتى جرى ضمها إلى قوات الحرس الوطني رسمياً في 12 تشرين الثاني 2014 من قبل الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو، والذي وصف مقاتلي آزوف بأنهم «أفضل محاربي أوكرانيا وأفضل المتطوعين».
الدور الذي لعبته التنظيمات القومية المتطرفة في أوكرانيا- منذ قتالهم إلى جانب النازيين الألمان حتى جرى تجنيدهم من قبل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية ليجري استخدامهم لاحقاً- دورٌ يستحق دراسة موسعة، فهؤلاء يشكلون اليوم خطراً حقيقياً لا بالنسبة لروسيا فحسب، بل بالنسبة للسلم العالمي، فالتيارات النازية الجديدة ليست تهديداً بوجه المتحدثين بالروسية كما يحاول الغرب تصويرهم، بل هم جنود مدربين يجري تحويلهم إلى جيش فاشي منظم. والمادة الأخرى التي تستحق الدراسة، هي كيف يتم تصوير فصائل النازيين الجدد بوصفهم أبطالاً يقودون معركة للتحرر الوطني، ويجري ضمنها استقطاب متطوعين للقتال إلى جانبهم بهدف تأجيج هذه الحرب، وأملاً في توسيعها إلى مناطق أخرى، أملاً في تخليص الرأسمالية من مأزقها لتلعب قوى الفاشية من جديد الدور ذاته في التاريخ. تصوير النازيين الجدد بوصفهم المدافعين عن مصالح الأوكران لا يختلف أبداً عن ادعاء النازيين الألمان بأنهم المدافعين عن مصالح الألمان، الذين كانوا أول من دفع فاتورة هذه الحرب بعد أن جرى تجنيد أبنائهم وتدريبهم في معسكرات تشبه إلى حد بعيد تلك التي تنظمها «آزوف» اليوم في أوكرانيا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1061
آخر تعديل على الإثنين, 14 آذار/مارس 2022 13:01