2022... قراءة أولية في مصير النزاعات الدولية

2022... قراءة أولية في مصير النزاعات الدولية

شكّلت الحروب والنزاعات المشتعلة- أو المتوقعة في المستقبل القريب- مفتاحاً لفهم ما يجري على الساحة الدولية، فمن الجانب الشكلي تُظهر بؤر التوتر نقاط التماس العالمي، وتساعد في تصوّر احتمالات واتجاهات توسعها، ولكنها في الوقت نفسه ورغم قسوتها يمكن أن تشكّل دروساً مهمة ينبغي الاستفادة منها.

تنشغل مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام في فترة نهاية العام وبداية العام الجديد بالإضاءة على أبرز الأحداث التي جرت، والتي رأت فيها أحداثاً ذات تأثير نوعي على مجرى الأحداث، وتلقى النزاعات- كغيرها من الأحداث السياسية البارزة- نصيباً كبيراً من الاهتمام. ولذلك تقدم هذه المادة قراءة موجزة لبعض النزاعات في العام السابق، وتلك التي يتوقع أن تمتد إلى العام القادم.

الرصد الغربي للأزمات

تحتل منظمة «مجموعة الأزمات الدولية» (international crisis group) مركزاً مهماً بين مراكز الدراسات والأبحاث الغربية، والتي تعنى برصد نقاط التوتر العالمي وتقديم التحديثات الدورية حولها، وتعتبر المنظمة مصدراً لكثير من الدوريات والصحف الغربية. وعلى الرغم من أن المنظمة «المستقلة» تحاول تثبيت استقلاليتها وأهدافها «النبيلة» إلا أن محرريها لا يحاولون حتى إخفاء مواقفهم السياسية، بل إن قراءة سريعة في تقاريرها الدورية تظهر نزعة واضحة لتجاهل، أو تضخيم نتائج بعض التوترات السياسية، وذلك تبعاً لمصالح من يقف وراءها، بالإضافة إلى كونها تتبنى إلى حدّ كبير الرواية الأمريكية والغربية حول مجمل الصراعات الدولية. وتشتهر مجموعة الأزمات الدولية بتقريرها السنوي «عشرة صراعات تجدر مراقبتها في العام القادم» والذي يقوم على بضع صفحات تحتوي قائمة الصراعات التي تتوقع المنظمة أنها ستشهد تطورات خطيرة في أشهر السنة القادمة، وترى أنه من الضروري أن يتم رصدها وتغطيتها من قبل وسائل الإعلام والسياسيين، أملاً في تجنبها والحد من آثارها.
تضمن تقريرها الصادر منذ أيام كلاً من أوكرانيا وإثيوبيا وأفغانستان، والتوتر الأمريكي- الصيني، والتوتر بين الولايات المتحدة و»إسرائيل» بمواجهة إيران، والحرب في اليمن، وما أسمته الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني، إلى جانب الأوضاع في هاييتي وميانمار، واختتمت القائمة بـ «التشدد الإسلامي في أفريقيا».
تقرير عام 2022 كغيره من التقارير يعبّر عمّا تتمناه النخب الغربية، ولذلك يمكننا استعراض بعض بنوده بعد مقاطعتها مع التقارير الصادرة عن نفس المنظمة منذ عام 2011 لنشكل صورة أوضح عن تطورات الملفات في خلال العقد الماضي.

أفغانستان وفرص الاحتواء الغائبة

احتلت أفغانستان رأس القائمة في تقرير عام 2021، والذي أشار بوضوح إلى أن قيام الولايات المتحدة بسحب قواتها بشكل سريع قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة، ويمكن أن يؤدي لاندلاع حربٍ أهلية متعددة الأطراف. ما تجاهله واضعوا تقرير المنظمة السنوي أن هذا كان الهدف الأمريكي المباشر للعام 2021 في أفغانستان، فالولايات المتحدة التي باتت مضطرة للانسحاب، سعت إلى إحداث أكبر قدرٍ من الفوضى مع انسحابها السريع، مما أدى إلى سقوط الحكومة الموالية للغرب في كابول بلمح البصر وهو ما وصفه تقرير عام 2022 «بالنهاية المذهلة للنظام السياسي الذي أمضت القوى الغربية عقدين من الزمن تساعد في بنائه». ويضيف التقرير: أن المخاطر التي تواجه أفغانستان لا تزال كبيرة على الرغم من انخفاض مستويات العنف بشكل كبير عن العام الماضي، ويتوسع التقرير في توضيح المسؤولية الكبيرة الواقعة على القوى الغربية في الوضع الحالي لأفغانستان، وتحديداً بسبب التضييق على اقتصادها الهش، وفرض العقوبات وتجميد الأصول الأفغانية في الخارج، وما يتركه هذا من آثارٍ إنسانية خطيرة على الشعب الأفغاني، ويشير التقرير أيضاً إلى أن طالبان «تواجه معركة شرسة ضد الفرع المحلي لتنظيم داعش في أفغانستان».
التقرير أغفل وبشكل مقصود مجموعة من الحقائق حول الوضع في أفغانستان، فهو وعلى الرغم من اعترافه بأن الغرب هو المسؤول عن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه أفغانستان، إلا أنه لا يشير بوضوح إلى أن الغرب هو المسؤول عن المحاولة المستمرة لدفع البلاد إلى حرب أهلية، فالمحاولة الأمريكية الأولى جرى احتوائها إلى حد كبير بجهود روسيا والصين ودول جوار أفغانستان، التي أعدت نفسها جيداً للصدمة الناتجة عن الانسحاب الأمريكي السريع المقصود، مما ساهم في احتواء الجزء الأكبر من ارتدادات هذه الصدمة، ونكاد نجزم أن تقرير عام 2023 الذي لم يكتب بعد سيغفل الدور الكبير الذي ستلعبه دول جوار أفغانستان في احتواء سيناريو الانهيار الناتج عن الضغط الاقتصادي، فحظوظ التفجير الواسع والحرب الأهلية في أفغانستان باتت أقل من أي وقت مضى بما يعارض المساعي الأمريكية وأتباعها في الغرب.

إيران هل ننتظر تصعيداً؟

يحمل تقرير عام 2022 في بنده الخامس، عنواناً إشكالياً، وهو «إيران في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل»، ويقوم الطرح الوارد تحته أن احتمالات فشل المفاوضات لعودة العمل في الاتفاق الذي انسحبت منه واشنطن لا يزال كبيراً، وأن فشل هذا المسار يعني من وجهة نظر «مجموعة الأزمات الدولية» اللجوء إلى خيار التصعيد. بل يقدم التقرير صياغة فريدة فيقول: إن استمرار تطوير البرنامج النووي الإيراني دون عوائق بهذا الشكل، سيفرض إيران كقوة نووية في العالم، ويُمكّنها من صنع السلاح النووي ـ إذا أرادت ذلك ـ ويذهب التقرير إلى القول باستحالة قبول واشنطن بذلك، مما سيفرض على واشنطن «الموافقة أو الانضمام إلى الضربات الإسرائيلية التي تهدف إلى إعاقة القدرة النووية لطهران. وبعبارة أخرى، يمكن أن تؤدي المحادثات المتعثرة إلى الجمع بين جميع المخاطر من الفترة التي سبقت اتفاق 2015 مع أسوأ مخاوف سنوات ترامب».
احتلت إيران موقعاً ثابتاً في تقرير «عشرة صراعات تجدر مراقبتها في العام القادم» بشكل متواصل منذ عام 2018 أي أن واضعي التقرير كانوا يرون احتمالاً جدياً في أن التوتر حول الملف الإيراني وحول دورها في المنطقة سيتحول إلى نزاع عسكري واسع، وتمسكوا في هذا الطرح لمدة خمس سنوات دون أن يقوموا بإعادة قراءة جدية لما يجري فعلياً. فالملف الإيراني دون أدنى شك يعتبر إحدى نقاط التوتر في العالم، وجرى حوله ما يكفي من الأحداث لتحويله إلى حرب جديدة للولايات المتحدة التي كانت ترغب في ذلك منذ زمن، لكن الأزمة التي تعاني منها واشنطن كانت أكبر من رغباتها، ولهذا لم تستطع تحقيق ما تريده كلياً في إيران، بل إن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ادعى في شهر حزيران من العام 2019 أنه أوقف هجوماً عسكرياً على إيران بعد أن علم بأن ذلك سيؤدي لخسائر في أرواح 150 شخصاً! فعلى الرغم من ملايين الأرواح التي أزهقتها حروب واشنطن إلا أنها باتت «تقلق» اليوم على أرواح 150 شخص! مما يدل على العجز الذي وصلت له الولايات المتحدة، فهي وعلى الرغم من وجود رغبة حقيقية لدى بعض نخبها السياسية بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، لكنها لم تستطع القيام بذلك، وذهبت الإدارة الحالية إلى تمسكها بالحل السياسي لأزمة البرنامج النووي الإيراني، وقامت بشكلٍ غير مسبوق بلجم كل المحاولات الصهيونية للقيام بتوجيه ضربة عسكرية لطهران.
ما يغفله التقرير، أن احتمالاً آخر بات يلوح في الأفق، وهو أن واشنطن تفكر هذه المرة بأن «تشرب الكأس المر هذا» وتقبل بإيران دولة نووية، وترى في هذا الملف أحد الأعباء التي بات لازماً عليها التخلص منها بعد أن فشلت في محاولة تغيير النظام الإيراني وضرب نزعته الاستقلالية.

الصين والولايات المتحدة

ينعكس غياب الاستراتيجية الواضحة لدى الولايات المتحدة لاحتواء نفوذ الصين المتنامي على حالة من التخبط في التحليل وتوقع الأحداث القادمة، فالتقرير يقول في إحدى فقراته: إن الرئيس الأمريكي جو بايدن يرى أن تكاليف التفوق الصيني الإقليمي أكبر من ما قد يترتب على المواجهة، أي، إن واشنطن لن تقبل بالتفوق الصيني حتى لو فرض هذا عليها المواجهة، على الرغم من أن سلوك وتصرفات واشنطن تدل على أن هذا ما تفكر فيه فعلاً، فهي تحاول تركيز كل جهودها السياسية والعسكرية على محور آسيا، لكن بعض الوقائع الأخيرة باتت تثير شكوكاً كبيرة حول قدرة واشنطن القيام بهذه المهمة! فما جرى في تايوان مؤخراً كان مثالاً مركباً لأصحاب هذه النظرية، فواشنطن والتي تحاول أن تظهر بوصفها المدافع الأول عن تايوان قالت وبشكلٍ رسمي: إن على قادة تايوان ألا يتوقعوا دعماً عسكرياً مباشراً من الجيش الأمريكي في حال اندلاع مواجهة مباشرة مع الصين، ولذلك يبدو أن الفكرة التي يوردها التقرير حول ميزان الربح والخسارة بالنسبة للرئيس الأمريكي أكثر تقلباً مما يبدو، فلا شك أن محيط الصين يعتبر منطقة ساخنة اليوم ولا يبدو أن تهدئة حقيقة تلوح في الأفق ولكن احتمالات تحول هذا التوتر إلى صدام عسكري أمريكي- صيني احتمال ضعيف، فالولايات المتحدة التي فشلت في احتواء إيران عسكرياً لن تجد سهولة أكبر في احتواء الصين! وخاصة أنها راهنت على شرخ في العلاقات الروسية- الصينية كشرط ضروري غير كافٍ لتكسب المعركة، وهو ما لم تنجح في تحقيقه حتى اللحظة.

تظل قراءة «النزاعات الدولية» قاصرة ما لم تفسر الظاهرة بشكلٍ أعمق، وإن كان الخبراء الذين يعدون التقرير الدوري لـ «مجموعة الأزمات الدولية» على دراية في الكثير من التفاصيل والتطورات الميدانية، إلا أن ما يغيب عنهم هو: أن حالة الصراع السياسي الذي يشهدها العالم بين الإمبراطورية الآفلة (الولايات المتحدة) والقوى الصاعدة الأخرى، وأبرزها روسيا والصين تتميز بخصائص نوعية جديدة، فالقوى الصاعدة باتت تدرك عبر تجربتها التاريخية أن حرمان الولايات المتحدة من الحروب سيكون أشبه بالتفجير المحصور في حيّز مكاني مدروس، ولذلك فالحرب اليوم هي خيار القوة الأضعف على الساحة الدولية، وأثبتت السنوات القليلة الماضية أن شرارة «غزو بولندا» (السبب المباشر للحرب العالمية الثانية) قد حدثت بالفعل مئات المرات، ولكن أية نار للحرب لم تتقد! فمساعي واشنطن الحثيثة تقابل بيقظة دائمة في الاتجاه المعاكس.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1051
آخر تعديل على الأحد, 02 كانون2/يناير 2022 23:18