إيران وقصّ الأجنحة الأمريكية من المنطقة

إيران وقصّ الأجنحة الأمريكية من المنطقة

استؤنفت خلال الأسبوع السابق محادثات فيينا من أجل إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني «خطة العمل الشاملة المشتركة» بعد عدة أشهرٍ من توقفها، ولا تزال المفاوضات مستمرة، وفاجأت إيران الجميع بطلبها بتعديل مسودة الاتفاق بشكل جذري قبل عدة أيام من الاستئناف، مما أنتج ردود فعل غربية حادة وضعت إشارات استفهام عديدة حول هذا المطلب قبيل المحادثات، وذلك وسط تصعيد «إسرائيلي» كبير، فما معنى طلب طهران وغايته؟

مع اقتراب جولة محادثات فيينا الأخيرة وما تلاها، برزت أحاديث سياسية وإعلامية مختلفة ركّزت في معظمها على توقعات إيجابية لنتائج هذه المفاوضات، وأن إعادة إحيائه باتت مسألة وقت لا أكثر.

لكن المرحلة التي تلت الانتخابات الرئاسية الإيرانية عادت كما يبدو لطرح شكوك حول جدية إيران في الوصول إلى اتفاق، وفي الوقت الذي انقسمت التحليلات، فمنها من ربط حماس إيران المنخفض اتجاه المفاوضات بفوز «رئيسي» في الانتخابات، ومنها من رأت أن إيران كانت تمضي في هذا الاتجاه منذ البداية، وخصوصاً أنها استطاعت الاستجابة بشكلٍ جيد للظروف الدولية والعقوبات المفروضة عليها، ونجحت بتسريع عملية توجهها شرقاً، مما أثبت فاعليته بتأريض العقوبات الأمريكية. وسعت طهران في الوقت نفسه إلى العمل في الإقليم للوصول لمناخ أقل توتراً مما يثبت أقدامها أكثر، فقامت مع دول الخليج بخطوات ثنائية تهدف إلى تخفيف حالة العداء والبحث عن الأرضية المشتركة مع دول الجوار.

الاتفاق النووي وأولويات طهران

بعد ان انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي سابقاً وجدت طهران نفسها مضطرةً لإعادة ترتيب أولوياتها، وخصوصاً أنها استطاعت في الفترة الماضية تطوير برنامجها النووي بشكلٍ ملحوظ، وهو ما دفعها للبحث عن اتفاقٍ أفضل، وخصوصاً أنها باتت تضع تطوير وتحسين علاقتها مع دول الشرق ودول الجوار ضمن أولوياتها.
وإذا ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي نفسها التي كانت تسعى للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني رغم التعنّت الشكلي لها، ومحاولاتها لفرض شروط جديدة سرعان ما تخلت عنها بالفترة السابقة التي برزت خلالها مؤشرات قرب إعادة الإحياء، باتت هي من تسعى الآن خلف عودتها من أجل إلزام طهران بشروط وقواعد تحكم عملية إنتاجها للطاقة النووية، وعودة عمل المراقبين الدوليين بصلاحياتهم السابقة داخلها.
إثر هذه الإحداثيات والمعادلات الإيرانية الجديدة، وقراءتها للموقف الأمريكي، بدأت برفع سقف مطالبها، نحو طلب تغيير مسودة الاتفاق، وصف بالراديكالي رغم عدم وضوح ماهية هذه التغييرات بعد، حيث أكد ذلك كل من ميخائيل أوليانوف ممثل روسيا الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا بتصريحه «تأثر شركاؤنا الغربيون بشدة عندما اقترح الجانب الإيراني تنفيذ مراجعة جوهرية للغاية، لإجراء تغييرات جذرية على مسودة الوثيقة النووية، والتي تم الاتفاق عليها خلال الجولات الست السابقة. لقد بدا للشركاء الغربيين أن هذا العرض كان راديكالياً للغاية، ومن هنا جاء رد الفعل المتشنج»، وتصريح المتحدثة باسم الخارجية الألمانية: «درسنا المقترحات بعناية وباستفاضة، وخلصنا إلى أن إيران انتهكت تقريباً جميع التسويات التي تم التوصل إليها خلال شهور من المفاوضات الصعبة... نتوقع عودة إيران إلى المفاوضات بمقترحات واقعية»، وبيان الخارجية الفرنسية: «لا تشكل المقترحات التي تقدمت بها إيران الأسبوع الماضي أساساً معقولاً».
إثر التهديد بفشل المفاوضات بعد رد الفعل الأمريكي والأوروبي، سارع الغربيون لجعل مواقفهم أكثر اعتدالاً، معتبرين بأن المقترحات قابلة للنقاش، وقد صرح وزير الخارجية الروسي لافروف بعدها، من أنه لا داعي للتهويل» مؤكداً: أن الفريق التفاوضي الإيراني تقدم باقتراحات عارضها الغربيون بشدة، ثم اعترفوا بأنها «تستحق الدراسة وقابلة للحياة».

أنفاس صهيونية أخيرة

خلال هذه الأوقات، مارس الكيان الصهيوني كعادته في كل جولة مفاوضات نووية، حملة تصعيد إعلامية وسياسية وعسكرية عالية، وقال وزير خارجية العدو يائير لابيد: إن عدم التوصل لاتفاق نووي مع إيران يعد أفضل من وجود اتفاق سيء (بالنسبة لإسرائيل)، ليصرح المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، محمود عباس زادة، بأمرٍ مشابه: إن «إيران تسعى إلى اتفاق جيد لكنها تعتبر عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من اتفاق سيئ» (بالنسبة لإيران).
وهدد الكيان مرةً تلو أخرى بالتحضير لضرب إيران عسكرياً بشكل واسع، بينما تختلف معه واشنطن تماماً، ﻷنها غير قادرة على تحمل تبعات عمل عسكري على إيران، ولأن مصلحتها لا تقتضي تصعيداً مع طهران في هذا الوقت تحديداً، مما يدفع واشنطن للجم تل أبيب، التي بات الجميع يدرك أن تهديداتها لن تخرج عن إطارها الإعلامي، كونها لن تدخل في هذه المعركة منفردة. فلا «إسرائيل» تمتلك ترسانة عسكرية قادرة على مجابهة القوة الإيرانية بها، ولا الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على تنمية ودعم هذه الترسانة في الظرف الراهن، كما أن كلاً منهما يدرك بأن حرباً مع طهران تعني صراعاً أكبر من حدوده الإقليمية، وعليه فإن الولايات المتحدة تحاول التعامل مع إيران والحدّ من قوتها بالوسائل السياسية والدبلوماسية على المدى الاستراتيجي، بينما تسعى تل أبيب- بهدف إفشال مفاوضات فيينا- على تعويم الطرح العسكري بديلاً عن الحوار السياسي.
ورغم ذلك، تعاملت إيران مع التهديدات «الإسرائيلية» بجدية، مهددةً بضرب مفاعل ديمونا النووي «الإسرائيلي» وتدميره بالكامل، وصرح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إن «أي تحرك معاد من قبل الأعداء سيواجه رداً شاملاً وحاسماً من القوات المسلحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وسيغير المعادلات الاستراتيجية بشكل مؤثر وكبير وجوهري»، ثم نشرت وكالة الأنباء الإيرانية لاحقاً مقطعاً مصوراً لمناورات «الرسول الأعظم 17» الإيرانية أطلق خلالها 17 صاروخاً بالستياً، وحاكت استهداف مفاعل ديمونا النووي.
وسواء خلصت مفاوضات فيينا إلى اتفاق أم لا، إلا أن ما يجري حوله يزيد من شرخ العلاقات الصهيونية- الأمريكية واختلاف سياستهما واستراتيجيتهما، ففي حين تعمل واشنطن على تنظيم تراجعها، تدرك تل أبيب أن هكذا تراجع، دون إضعاف أعدائها- وهو ما يجري- يعني ارتفاع الخطر الوجودي على «إسرائيل»، والمعضلة تكمن بأن هذه الأخيرة دون الولايات المتحدة، لا وزن لها في المنطقة بصرف النظر عن كل اتفاقات ومسرحيات «التطبيع» الجارية.

التقارب السعودي

في المقابل، كانت المفاوضات الإيرانية- السعودية في العراق خلال الأشهر الـ 6 الأخيرة تمضي على قدمٍ وساق، بمؤشرات إيجابية عموماً رغم قلتها، إلا أنها أثمرت في نهاية المطاف، بعد كل المشاورات النظرية، إلى خطوة عملية ملموسة تمثلت بعودة 3 دبلوماسيين إيرانيين للعمل في السعودية، وفقاً لتصريح من وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بعد انقطاع تام في العلاقات دام 5 سنوات، مؤكداً في الوقت نفسه استمرار المفاوضات ومعلناً عن جولة جديدة في العاصمة بغداد خلال الفترة القادمة.
تسعى السعودية- بالاستناد لمؤشرات التقارب مع إيران- نحو تهدئة التوتر وحلحلته إثر حالة الانكفاء الأمريكي نفسه مما يجعلها في موقعٍ أفضل، إلا أن واشنطن كانت ولا تزال تعبث بعلاقة الرياض وطهران عبر «المستنقع» اليمني الذي يضم كلاً منهما، فبالتوازي مع جولة المفاوضات وعودة الدبلوماسيين جرى تصعيد كبير في الحرب اليمنية بين الحوثيين وقوات التحالف العربي خلال الأسبوع الماضي، والذي شاركت به الإمارات «المطبعة» بشكل فعاّل وواضح، ولكنها لم تحدث أي أثر يذكر على نتائج التقارب، حتى الآن على الأقل.

العام الأخير للوجود الأمريكي في العراق؟

على الرغم من النجاح المؤقت للسياسة الأمريكية بالتعاون مع الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي باستبعاد حلفاء إيران عن البرلمان العراقي لصالح التيار الصدري خلال الانتخابات الأخيرة، وما نشب عنها من أزمة سياسية جارية بين مختلف القوى السياسية العراقية، لم تبد طهران أية ردود فعل تصعيدية، وخصوصاً أنها باتت في موقع القوة، وأعلنت تأييدها لنتائج الانتخابات، وتحاول تهدئة مختلف الأطراف، بما فيهم القوى الحليفة لها، فيما يبدو بمراهنتها على عامل الزمن لمرحلة ما بعد الخروج الأمريكي في نهاية العام الجاري، وما سيتلوه بشكل متسارعٍ بهذا الأمر دون الحاجة للتدخل المباشر منها، والذي سيؤدي في نهاية المطاف- بعد الخروج الأمريكي- إلى إضعاف منظومة (بريمر) بأكملها، وليس السلطة وحدها، ومن غير كثيرٍ من الاجتهاد: فإذا ما كان حلفاء واشنطن التاريخيين (السعودية مثالاً) باتوا يسلكون طريقاً مخالفاً للمصلحة الأمريكية بشكلٍ موضوعي، فإن العراق نفسه، وبشكل موضوعيّ أيضاً، قبل أية عوامل ذاتية- رغم التأكيد على شرط وجودها- مرشحٌ لذلك أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1050