خيارات واشنطن الصعبة في أوكرانيا

خيارات واشنطن الصعبة في أوكرانيا

يزداد التصعيد السياسي والعسكري غرباً وشرقاً حول أوكرانيا، ولم يمرّ يوم منذ شهرٍ وحتى الآن، دون أن تصدر الصحافة الغربية تحذيراتها من أسمته «الغزو» الروسي المقبل على الأراضي الأوكرانية، رغم تأكيد موسكو، مراراً وتكراراً، بأن هذه الادّعاءات غير صحيحة مطلقاً.

العدّ التنازلي للتاريخ الأمريكي كشرطي العالم يشارف على الانتهاء، وسط توقعات من مختلف المحللين بأن الولايات المتحدة لن يتعدى وزنها أن تكون «قوةً إقليمية» خلال عقدٍ واحد- وهذا على فرض أنها تمكنت من الحفاظ على وحدتها- وذلك وفقاً لتسارع التطورات والانكفاء الأمريكي الجاري في هذه الأوقات، لتتخبط واشنطن يميناً ويساراً داخل أزمتها وبكيفية حل مشاكلها المتعاظمة، وكيفية إضعاف خصومها معها، وفي كل مرة تكون النتيجة: إضعاف حلفائها.

خلفية الحدث

جاء دور أحد الحلفاء اليوم: أوكرانيا. التي تضعها واشنطن، وتدفع بها، لمواجهة موسكو من أجل جرّ الأخيرة لأزمة جديدة يجري استنزافها بها، سواء عسكرياً، أو سياسياً، حيث عاودت كييف من تصعيدها واستفزازاتها على جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في منطقة دونباس في أوكرانيا.
وللتذكير: أعلنت جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك بشكل أحادي بعد إجراء استفتاء شعبي فيهما عقب احتجاجات عام 2014 والانقلاب السياسي على حكومة الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش، حيث انقسمت البلاد إلى موالين لسياسة الاتحاد الأوروبي وموالين لسياسة روسيا، وكانت هي الفترة التي أُجري فيها استفتاء القرم بالانضمام إلى روسيا أيضاً.
رغم ذلك، صرحت موسكو مراراً أنها لم ولن تتدخل بالقضايا الداخلية لأوكرانيا فيما يخص منطقة الدونباس، إلا أنها تقف بمواجهة التدخل الأمريكي الساعي لتفجير الأزمة داخل البلاد وصولاً إلى حربٍ أهلية على الحدود الروسية، يهدف لتوسيعها، وكانت موسكو قد طرحت ولا تزال فكرة الحوار والحلول السياسية للأزمة، كان منها اتفاقية مينسك واجتماعات صيغة النورماندي وما صدر عنها.
وعلى غرار غيرها من الدول المتأزمة ذات الأنظمة الفاسدة، ليس من مصلحة حكومة زيلينسكي أية تهدئة مع دونباس أو روسيا، وتتقاطع مع واشنطن بالمصلحة المتمثلة بإدامة التوتر والصراع سواء داخل البلاد، أو مع روسيا، من أجل قمع أية معارضة داخلية من جهة، وتثبيت المنظومة القائمة، والاغتناء من الحرب والدعم الأمريكي «السخي» والمُفسد أكثر.

معاودة التصعيد والكرم الغربي

قبل نحو شهرين، عاودت حكومة زيلينسكي تصعيدها على الدونباس، وأدى ذلك إلى حصول العديد من خروقات اتفاق وقف إطلاق النار من الطرفين، وصاحب ذلك حملة إعلامية وسياسية محرضة تجاه الدونباس كانت غايتها تحشيد قوات عسكرية أوكرانيا قربها، بالتوازي مع دعم واشنطن والناتو لكييف، والمؤشرات التي تفيد باحتمالية دخول أوكرانيا إلى حلف الشمال الأطلسي كعضو جديد.. وكان كل ذلك يجري بالتوازي مع اتهام موسكو وتحميلها مسؤولية توتر الداخل الأوكراني إثر استفتاء القرم،، كما قامت واشنطن بتوريد العديد من الأسلحة، ودعم كييف بمليارات الدولارات منذ أزمة عام 2014، فوفقاً لتصريح من المتحدث باسم البنتاغون، جون كيريبي: «خصصت واشنطن منذ عام 2014 أكثر من 2.5 ملياري دولار ونصف لدعم الجيش الأوكراني»، وأعلن وزير الخارجية الأوكراني دميتري كوليبا منذ أسبوع: أنه «ينص مشروع ميزانية الولايات المتحدة لعام 2022 على مبلغ إجمالي من المساعدة لأوكرانيا قدره 756 مليون دولار»، كما أعلنت وزارة الخارجية البريطانية مؤخراً «منح كييف قرضا قدره 1.7 مليار جنيه لتطوير الأسلحة وتأهيل البنية التحتية لبحريتها».

روسيا تحرك قواتها...

جرّاء كل هذا الدعم والتحشيد العسكري الغربي في أوكرانيا وحولها، وتعزيز قدراتها العسكرية، وسط مواقفها الحربية المعادية لموسكو، أقدمت الأخيرة على تعزيز تواجدها العسكري على الحدود الروسية الأوكرانية استعداداً لأية احتمالات ضرورية مستقبلاً، وهو ما اعتبرته موسكو إجراءً دفاعياً طبيعياً، لكن وسائل الإعلام الغربية ما لبثت أن وصفت هذه التحركات الروسية الجارية داخل حدودها بأنها «استعدادٌ لغزو أوكرانيا»، وصب الزيت على النار، والنفخ بالحدث وصولاً لتوقع العديد من المحللين شرقاً وغرباً بأن طبول الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تدق.
رغم ذلك، ظلت موسكو وحيدةً تصرح وتؤكد بأنها لا تعتزم ولا تستعد للقيام بأية عملية عسكرية داخل أوكرانيا، وإنما تحرك قواتها داخل أراضيها كإجراء دفاعي عن كل ما يجري حولها وفي أوكرانيا تحديداً، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا «عند قراءة وسائل الإعلام الغربية والصحافة الألمانية، سيتكون مثل هذا الانطباع بالذات. لكن هذا الشعور كاذب، ويتم تشكيله عمداً بشكل مقصود. هذه حملة تضليل كاذبة».
وأعلن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف: «نرى أن الحلف [الناتو] بدأ التدخل في أوكرانيا، ويزودها بالأسلحة الدفاعية الحديثة المتطورة تكنولوجياً، ثم الهجومية والمعدات ذات الاستخدام المزدوج».

روسيا تستجيب للتهديدات

من ضمن استعدادات روسيا للتعامل مع التهديدات العسكرية على الحدود قدمت موسكو مجموعة مقترحات ثنائية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومجموعة مقترحات أخرى للناتو، بشأن الضمانات الأمنية في أوروبا وخفض التصعيد وحل الأزمات.
تتشكل المقترحات الروسية للولايات المتحدة من 10 نقاط، جاء فيها باختصار: ألّا يتخذ الطرفان ولا يشاركان في إجراءات تضر بأمن أحدهما الآخر، وأن يلتزم الطرفان بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويتعهد الطرفان بعدم استخدام أراضي دول أخرى للتحضير أو تنفيذ هجوم عسكري أو تهديد أمني لأحدهما الآخر، وتعهد الولايات المتحدة بمنع امتداد الناتو شرقاً، وعدم إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفييتية السابقة غير المنتمية للناتو، وامتناع الطرفين عن نشر قوات وأسلحة في المناطق التي يعتبرونها تهديداً لأمنهم، وعدم نشر الطرفين صواريخ متوسطة وقصيرة المدى وأسلحة نووية خارج حدودهما، وغيره.
أما المقترحات الروسية للناتو فقد كانت من 15 نقطة، جاء فيها باختصار: الاسترشاد بمبادئ التعاون والمساواة في الأمن، وتعهد الأطراف بحل الخلافات الدولية بالأساليب السلمية، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بأي شكل يخالف أهداف الأمم المتحدة، والتعهد بعدم التسبب بحالات من شأنها أن تشكل خطراً على أمن الأطراف الأخرى بالاتفاقية، والتعهد بضبط النفس في التخطيط العسكري، حل الحالات الخلافية بآليات التشاور العاجل الثنائية والمتخدة، التعهد بمنع استمرار توسع الحلف من خلال انضمام أوكرانيا ودول أخرى، والتعهد بعدم نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى تهدد جميع الأطراف، وغيرها.
المقترحات التي تقدمت بها روسيا تعطي ضمانات أمنية حقيقية لجميع الأطراف، وتدفع نحو حل الخلافات سواء في أوكرانيا أو غيرها بالحوار والدبلوماسية، لتأتي الردود الأوروبية والأمريكية «صانعة السلام» بشكل سلبيّ على المقترحات، وأعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين بساكي أنه «لن تكون هناك أية مفاوضات بشأن أمن أوروبا دون مشاركة حلفائنا وشركائنا الأوروبيين»، بينما صرح مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، مخففاً من التصعيد، أن بلاده مستعدة للحوار مع روسيا حول مقترحاتها الأمنية، علماً أن واشنطن ستطرح مخاوفها على طاولة البحث.
وعلق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول الأمر، أن «الإشارات من واشنطن وبروكسل مخيبة للأمل للغاية بالنسبة لنا».
بالمقابل، رحبت الأمم المتحدة بمقترحات روسيا، وقال نائب الناطق باسم الأمين العام لها، فرحان حق «نحن نرحب بالحوار على مختلف المستويات بين روسيا والولايات المتحدة بهدف حل الخلافات وتخفيف التوتر وحماية السلام الإقليمي... غوتيريش يُذكر جميع الأطراف بمسؤوليتها عن ضمان تسوية سلمية للنزاع في شرق أوكرانيا وفقا لاتفاقات مينسك، ويعلن دعم الأمم المتحدة لجميع جهود المفاوضات الجارية».

أمريكا وبريطانيا لن تدعما كييف عسكرياً!

بعد كل التصعيد السابق، صرح وزير الدفاع البريطاني، بن والات، أن كييف «ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي لذا فمن غير المرجح إلى حد كبير أن يرسل أحد قوات إلى أوكرانيا لتحدي روسيا» وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أشار في وقتٍ سابق إلى أن بلاده لن تشارك بالحرب عسكرياً في أوكرانيا، لتقف حكومة زيلينكسي بموقف لا تُحسد عليه حالياً.

خيارات صعبة

في ظل المتغيرات الكثيرة تشهد أوكرانيا أزمة داخلية، ويرى بعض المراقبين الغربيين خلافات بين زيلينسكي وقوى سياسية من جهة، وبينه وبين بعض أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من جهة أخرى، وفي هذه الأثناء يبدو واضحاً أن سلوك واشنطن يؤكد مجدداً: أن ما يهمها هو الحفاظ على سلوك أوكرانيا الاستفزازي على الحدود الغربية لروسيا، بغض النظر عن نتائج هذا السلوك على الشعب الأوكراني والأمن الأوروبي.
خيارات أوكرانيا اليوم باتت محدودة جداً، فإما الإبقاء على سياسة استفزاز روسيا وشحن الأجواء مما سيسرع في نفاذ صبر الكرملين، لما يشكله هذا السلوك من تهديد حقيقي للأمن الوطني الروسي، ويدفع روسيا بالتالي لمجابهة السلوك الاستفزازي، وإما أن ترضخ أوكرانيا وتخفض التصعيد ما يعني الموافقة على المبادرة الروسية، في كلتا الحالتين ستكون النتيجة واحدة، وهي تثبيت التراجع الغربي وخسارة جديدة في رصيد واشنطن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1049
آخر تعديل على السبت, 25 كانون1/ديسمبر 2021 23:56