إثيوبيا في مواجهة حقيقية مع خطر التفتيت

إثيوبيا في مواجهة حقيقية مع خطر التفتيت

تشتد المواجهات العسكرية بين القوات الحكومية في إثيوبيا، وبين مقاتلي جماعات المعارضة المسلحة من قوات جبهة تحرير تيغراي وجيش تحرير أورومو وجماعات أخرى، ولا مؤشرات على تهدئة قريبة للمعارك التي أودت بحياة الآلاف، وهجرت سكان العديد من المناطق حتى اللحظة، هذه الصورة القاتمة تشكّل اليوم نقطة محورية في مستقبل القرن الإفريقي، ومستقبل أحد أبرز دول القارة الإفريقية.

لا تنقطع الأنباء حول التطورات العسكرية الميدانية في إثيوبيا، وتحديداً بعد إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ارتداء البدلة العسكرية والانطلاق للقتال في خطوط الجبهة الأمامية، تاركاً خلفه جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها يوم كان الغرب يحاول شراء ولائه مع احتدام المنافسة الصينية الأمريكية في القارة الإفريقية.

لمحة من الميدان

أعلنت القوات المسلحة الإثيوبية في 28 تشرين الثاني من العام 2020، انتهاء الأعمال القتالية بعد سيطرتها الكاملة على ميكيلي، عاصمة إقليم تيغراي. إلا أن التطورات اللاحقة غيّرت المعطيات بشكلٍ جذري، فاستطاعت قوات جبهة تحرير تيغراي بعد أشهر قليلة استعادة العاصمة في حزيران من عام 2021، كما لو كانت القوات الحكومية قد وقعت في مصيدة معدة بشكلٍ مدروس، فتوالت خسائر الجيش الإثيوبي بعد أن قادت قوات تحرير تيغراي هجوماً معاكساً تجاوز حدود الإقليم في الشمال الشرقي، حتى وصل إلى وسط أثيوبيا وعلى بعد 220 كم من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
يرى البعض أن التطورات العسكرية السريعة لم تكن مفاجأة، فالقوات المسلحة للمعارضة تتمتع بخبرات عسكرية طويلة بسبب مشاركتها في نزاعات عسكرية طويلة أكسبتها خبرة تبدو أنها أكبر من تلك التي يملكها الجيش الإثيوبي، الذي عانى نفسه من إقالات واسعة بين صفوف ضباطه، في الوقت الذي كان يحاول آبي أحمد إعادة هيكلة الجيش أملاً في إبعاده عن الانتماءات والاصطفافات الإثنية التي سيطرت على المشهد الإثيوبي منذ عقود، ولا تزال تشكّل جزءاً من هذا المشهد حتى اللحظة. آبي أحمد، وبعد تسارع الأحداث الميدانية، وانخفاض الروح المعنوية بشكلٍ ملحوظ في صفوف الجيش، أعلن سريان قانون الطوارئ لمدة ستة أشهر، وبدأ بحملة تحريض واسعة بين صفوف مناصريه انتهت بإعلانه تسليم صلاحياته الإدارية إلى نائبه ووزير الخارجية مؤقتاً، لينتقل إلى القتال في الصفوف الأولى في محاولة لقلب المعادلة العسكرية.
اليوم تبقى الصورة مشوشة في الوقت الذي يحاول الطرفان تظهير نتائج العمليات العسكرية كما لو أنها في صالحهم، الظروف الميدانية لا تزال شديدة التعقيد، فقوات جبهة تيغراي بثت لقطات صادمة لأكثر من 11 ألف مقاتل قالت إنهم أسرى من القوات المناصرة لآبي أحمد، في محاولة لضرب الروح المعنوية للجيش الذي نجح حتى اللحظة بوقف التراجع وحماية الطريق البري الاستراتيجي الواصل من ميناء جيبوتي إلى العاصمة أديس أبابا، والذي يعد شريان الحياة في البلاد.

المخاطر القائمة والمخارج الممكنة

لا شك، أن الخطر الأكبر الذي يهدد إثيوبيا هو خطر تفتتها، فالمعارك الدائرة اليوم لا ترد إلى خلافات سياسية راهنة فحسب، بل تعود في جذورها إلى نزاعات تاريخية طويلة لم تكفِ سنوات قليلة- من الاستقرار السياسي في البلاد- لحلحلتها، لكن حدود هذا الصراع أوسع من حدود إثيوبيا بكثير، ولذلك تبقى كل المحاولات لفهم الأزمة الإثيوبية ضمن حدود أقاليمها محاولة قاصرة لن تفيد في توضيح الصورة. ولنستطيع الإجابة عن الأسئلة المطروحة لابد أولاً من التذكير أن إثيوبيا تعتبر مفتاحاً للقارة الإفريقية، فهذا البلد وعلى الرغم من أنه يعتبر بلداً حبيساً بالمعنى الجغرافي، إلا أنه يلعب دوراً محورياً في القرن وكامل القارة الإفريقية، فأديس أبابا تحوي المقر الدائم للاتحاد الأفريقي، ومقر اللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، إثيوبيا ونظراً لحجمها وعدد سكانها الذي يفوق 115 مليون شكّلت نقطة ارتكاز شديدة الأهمية في إفريقيا، مما جعلها بالضرورة مركز الصراع الدولي على القارة. فمن هذه النقطة نطرح عدة أسئلة لا تصعب الإجابة عنها كثيراً: ما هو موقع إثيوبيا من الصراع الدولي الصيني- الأمريكي؟ ومن المستفيد من تفتيت إثيوبيا؟ وما سينتج عنه من مآسٍ؟
كانت إثيوبيا تدور في الفلك الغربي منذ عقود، وسعت الولايات المتحدة دائماً إلى تثبيت أقدامها في إثيوبيا كامتداد للسيطرة الاستعمارية على إفريقيا، لكن واشنطن بدأت تخسر نفوذها أمام بكين التي باتت اللاعب الأقوى على الساحة الإفريقية، وذلك نظراً لكونها قدمّت مخرجاً للكثير من المشكلات التنموية التي تعاني منها البلدان الإفريقية، وشكّلت بديلاً مالياً عن القروض الغربية ذات الشروط السياسيةـ وقد شكّلت العلاقات الصينية- الإثيوبية عقدة رئيسية في علاقات بكين مع إفريقيا، وارتفعت الاستثمارات الصينية في إثيوبيا من حوالي 30 مليون دولار في عام 2005 إلى أكثر من 2,5 مليار دولار في 2019، وذهبت أكثر من 68% من هذه الاستثمارات إلى قطاع التصنيع المعتمد على المنتجات الزراعية والحيوانية، وحوالي 20% في قطاعات البناء والعقارات، وتقول التقديرات: إن الشركات الصينية أنشأت أكثر من ثلثي الطرق في إثيوبيا، وأشهرها الطريق الذي يربط العاصمة بميناء جيبوتي، ومولت الصين أيضاً بناء المقر الدائم للاتحاد الإفريقي في أديس أبابا بملغ 200 مليون دولار. التواجد الأمريكي خلال الفترة ذاتها لم يكن معدوماً، بل إن قطاعات كثيرة كانت تشهد تنافساً صينياً أمريكياً، ومنها: قطاع الاتصالات، لكن خسارة واشنطن لإثيوبيا كان اتجاهاً ثابتاً بمقابل تقدم مستمر للصين التي تصف شراكتها بإثيوبيا بالشراكة الاستراتيجية.

إحراق إثيوبيا

الأرقام التي توضح خسارة واشنطن في التنافس الاقتصادي كانت نتيجة متوقعة، وخصوصاً أن النتائج السيئة للتجربة الطويلة للدول الإفريقية مع المؤسسات الغربية كانت كفيلة بدفعهم باتجاه البحث عن بدائل على الساحة الدولية، وخصوصاً بعد تعاظم قدرات الصين وروسيا في هذا المجال، فالدول الإفريقية وجدت في علاقاتها مع الصين بوابة حقيقية لتحقيق التنمية بعيداً عن الشروط السياسية التي فرضها معسكر واشنطن لعقود، هذا إلى جانب أن الصين اتجهت نحو الاستثمار بالبنية التحتية التي كانت بأمس الحاجة للتطوير، بالإضافة إلى دعم قطاعات الإنتاج الحقيقي، كالصناعة والإنشاء، على عكس السياسة الغربية، التي فضّلت إغراق الدول الإفريقية الفقيرة بالحروب والمساعدات الغذائية الدائمة التي ساهمت بترويض القرار السياسي في كثيرٍ من هذه البلدان بما يخدم المصالح الغربية، حتى وإن كانت تضر بمصالح شعوب هذه البلدان. كل هذه العوامل وغيرها كانت تقود إثيوبيا- حتى بعد المحاولات الغربية لاستمالة آبي أحمد- باتجاه بكين، ولذلك وجدت واشنطن نفسها أمام خيار وحيد وهو: إحراق إثيوبيا بالاعتماد على عاملين، خارجي: عبر الضغط والعقوبات ومحاولات التضليل الإعلامي. والثاني: الذي يستند إلى خزان المشاكل الداخلي التي تراكمت لعقود في إثيوبيا.
الواقع اليوم يحمل احتمالات سيئة، فتفتيت إثيوبيا يعتبر خطراً حقيقياً قائماً، واليوم تمثل مبادرة الاتحاد الإفريقي مخرجاً محتملاً من الأزمة الحالية، ومخاطر انزلاق البلاد نحو حرب أهلية شاملة، فالاتحاد الإفريقي بدعمٍ من الأمم المتحدة والصين يطرح مبادرة تقوم على وقف إطلاق النار، ودعوة جبهة تحرير تيغراي لتجميد مواقع قواتها، والانسحاب إلى مواقع ما قبل الصراع، بهدف إطلاق حوار سياسي شامل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1046
آخر تعديل على الإثنين, 06 كانون1/ديسمبر 2021 13:00