بين خيارات واشنطن وطهران
بعد حالة الركود التي شهدها الملف النووي الإيراني، عاد الحديث يتجدد ولكن هذه المرة مع إشارات مختلفة، فزيارة رئيس وزراء الكيان نفتالي بنيت إلى واشنطن، والتصريحات التي خرجت عنها، بالإضافة إلى التصريحات الأخيرة للمرشد الإيراني علي خامنئي، والتي تلمح إلى احتمالات مختلفة. فما هي الخيارات الجديدة التي يتحدث عنها الكيان الصهيوني والولايات المتحدة؟ وما هي آفاق الدبلوماسية الأكثر اتساعاً التي ذكرها الخامنئي؟
المفاوضات التي كانت تتقدم ببطء غير مفهوم، وصلت إلى حالة من الركود قبيل استلام الرئيس الإيراني الجديد لمنصبه، وأبدى بعض الدبلوماسيين الغربيين تخوفاً من وصول الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي إلى الحكم، وما قد يمثله هذا من تهديد للمباحثات النووية.
ارتباك غربي
في تقرير نشرته جريدة نيويورك تايميز الأمريكية في أواخر شهر تموز الماضي، أشارت إلى حادثة طريفة ذات دلالة مهمة، فأحد الدبلوماسيين في الوفد الأميركي المفاوض غادر فيينا بعد انتهاء جولة المفاوضات الأخيرة معتقداً أن الجولة القادمة ستعقد قريباً، مما دفعه لترك ملابسه في مقر البعثة، ليجد أن المفاوضات تعثرت لسبب غير مفهوم. ويتحدث التقرير: أن المفاوضات كانت تسير بشكل جيد، وأن الجانب الإيراني أعطى إشارات جدية عن إمكانية التوصل إلى اتفاق بعد تجاوز معظم الخلافات الجوهرية، لكن الجولة القادمة التي كان يعوّل عليها لم تعقد بعد! مما بات يثير قلقاً أمريكياً- حسب التقرير ذاته- من احتمال فشل فريق بايدن في استعادة الاتفاق النووي الإيراني الذي انسحبت منه واشنطن قبل سنوات.
يعتقد بعض الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يعملون على الملف النووي الإيراني، أن فرص الولايات المتحدة في استعادة الاتفاق باتت ضعيفة، فحسب تصريحات روبرت مالي كبير المفاوضين الأمريكيين، بأن الفريق الإيراني قد يعود بمطالب غير واقعية، مما يعني عراقيل إضافية في وجه الاتفاق من وجهة نظره، ويتوقع الدبلوماسيون الأمريكيون بأن تصبح فرص العودة إلى الاتفاق معدومة في الخريف المقبل بعد أن «تعلم الإيرانيون الكثير في هذه الفترة».
قلق «إسرائيلي» مزمن
ارتباك رئيس وزراء الكيان وإصراره على نقاش الملف النووي الإيراني في زيارته الأخيرة إلى واشنطن في 27 من شهر آب الجاري، يوضح الارتباك الصهيوني المزمن، والمتصاعد، والذي بات أوسع من الملف النووي الإيراني ليشمل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وما يعنيه هذا الحدث بالنسبة لمستقبل الكيان الأسود.
لا يبدو أي حلٍ للملف النووي الإيراني مقبولاً من الكيان الذي بات قادته يتمنون لو يستيقظون ليجدوا إيران ممسوحة عن الخريطة! فالكيان كان أكبر المهاجمين للاتفاق النووي الإيراني لأنه رأى فيه اعترافاً دولياً بحق إيران بأن تكون قوة إقليمية وازنة، واعترافاً بحقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وما يعنيه ذلك من دفع للاقتصاد الإيراني المتطور، أي تهديد لتفوق الكيان الصهيوني في المنطقة. ومع إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انسحابه بشكلٍ منفرد من هذا الاتفاق تنفس قادة الكيان الصعداء مؤقتاً، إلا أن الوضع بات أكثر تعقيداً نظراً لعدم قدرة الولايات المتحدة على إيقاف إيران، التي بدأت تتراجع عن التزاماتها بسبب عدم جدية الأطراف الاخرى في هذا الاتفاق. وعلى الرغم من أن الرئيس جو بايدن أعلن في نهاية زيارة رئيس وزراء الكيان أن الولايات المتحدة الأمريكية تضع الدبلوماسية أولاً، ولكن «إذا فشلت الدبلوماسية فنحن مستعدون للانتقال إلى خيارات أخرى» لكن الكيان يدرك أن الولايات المتحدة غير قادرة على تقديم المزيد.
حول الخيارات الأخرى لواشنطن وطهران
في الحديث الأخير للمرشد الإيراني علي الخامنئي والموجه إلى الحكومة الجديدة، قال بشكلٍ صريح: بأن دائرة الدبلوماسية أوسع من الملف النووي الإيراني، وبأن هذا الملف ينبغي العمل معه بشكل منفرد وبطريقة مناسبة ولائقة، ووجه الحكومة إلى وجوب العمل على تعزيز مجالات أخرى من الدبلوماسية، ولاسيما الدبلوماسية الاقتصادية بهدف بناء علاقات متينة مع معظم دول الجوار.
قد نقرأ تفسيرات مختلفة لكلمات المرشد، وخصوصاً آنه لم يعطِ موقفاً واضحاً من استئناف المفاوضات ولذلك يبدو من المفيد وضع كلمات المرشد ضمن سياقها في محاولة لفهم خيارات إيران في المرحلة اللاحقة:
شهد تاريخ الملف النووي الإيراني الكثير من الأحداث، ويمكننا تمييز أربع مراحل رئيسية فيه، أولها: محاولات الغرب تطويق إيران والبرنامج النووي الإيراني بعد أن قررت الثورة الإيرانية تحويله من برنامج تابع للغرب إلى برنامج وطني شامل، لتكسر بذلك أحد أشكال التبعية للغرب. والمرحلة الثانية: بدأت مع خضوع الغرب وإقراره بحق إيران في امتلاك برنامج نووي سلمي. لتبدأ المرحلة الثالثة: مع انسحاب الولايات المتحدة بشكل أحادي من الاتفاق وخروجها المعهود عن القانون الدولي. أما المرحلة الرابعة الحالية: هي تلك التي تستميت الإدارة الحالية للعودة لهذا الاتفاق بمقابل فتور إيراني تجاه الملف!
رسم الملف النووي الإيراني شكّل علاقة طهران مع العالم، وفي الوقت الذي باتت إيران تشعر بضرورة إخراج نفسها من العزلة المفروضة عليها، كان الوصول إلى الاتفاق ضرورة وطنية، لكن سلوك واشنطن وتبعية الدول الأوروبية لواشنطن، وضعف موقفها على الساحة الدولية، جعل هذا الاتفاق حبراً على ورق، مما دفع بعض القوى في إيران لاعتباره جهداً ضائعاً وخصوصاً أن الميزان الدولي قد تبدل بشكل كبير منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق، مما جعل «آفاق الدبلوماسية» أوسع من السابق. ففي الوقت الذي تتمتع فيه إيران بعلاقات متينة بالمعنى الاقتصادي والسياسي مع الصين وروسيا وتركيا، يبدو تقديم التنازلات للغرب ضرباً من الجنون بالنسبة لقوى واسعة ضمن إيران، تلك القوى التي ترى اليوم أن الولايات المتحدة والغرب كان بموقع أفضل يوم جرى التوقيع على الاتفاق في 2015! ولذلك يبدو تنازل إيران عن جزء كبير من طموحاتها النووية بلا مقابل كافٍ، وخصوصاً أن ميزان القوى الحالي يسمح لإيران لا بالاندماج المشروط بالمجتمع الدولي فحسب، بل بالمشاركة في رسم الضوابط الضرورية لضمان التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وهو ما يعني أن تفوق الكيان الصهيوني لن يكون خارج المعادلة، وهو ما يفسر التوتر الصهيوني.
في تصريحات لبنيت قال أن الكيان لن يطلب أبداً من الولايات المتحدة إرسال قوات للدفاع عنه. بل إن ما يطلبه هو «حصار إيران وتنفيذ عمليات عينية هناك» وهو ما عمل عليه الكيان الصهيوني وواشنطن لعقود ولم يثمر بل على العكس تماماً فقد شكّل الاستهداف الدائم لإيران أحد ركائز استقرارها الداخلي، واليوم وفي الوقت الذي تقول فيه واشنطن أنها قد تبحث سبلاً أخرى غير الدبلوماسية لمعالجة المسألة الإيرانية يدرك الجميع بأن الدبلوماسية لم تكن يوما خيار واشنطن بل إنها دخلت في المفاوضات مضطرة بعد عجزها عن علاج الملف عسكرياً أي أن فشل الطريق الدبلوماسي قد يسمح لإيران بوضع شروط جديدة للعبة وخصوصاً أنها الطرف الوحيد الذي يملك خيارات أخرى فعلاً وخصوصاً مع علاقاتها الراسخة مع القوى الصاعدة التي باتت في موقع أكثر متانة مع خروج الولايات المتحدة من أفغانستان.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1033