واشنطن وهوس العاجزين بالصعود الصيني
شهد شهر آذار الحالي سلسلة من الأحداث التي ساعدت في تقديم نموذج عن السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالصين، أي: التزام إدارة بايدن بسياسة التطويق ومحاولة الاحتواء التي استمرت عقوداً من الزمن، رغم اختلاف الإدارات الأمريكية. وكان المؤشر الأول هو: التزام إدارة بايدن بسياسة ترامب فيما يتعلق باستهداف وحظر الشركات الصينية.
حددت الولايات المتحدة مجدداً خمس شركات تكنولوجيا صينية، بما في ذلك «هواوي»، بأنها «خطر على الأمن القومي الأمريكي»، ولا داعي للقول: إنه كالعادة لم يجرِ تقديم دليل واحد يؤكد صحة هذا الادعاء. وبالتالي، فمن الواضح- كما لاحظت صحيفة دويتشه فيله الألمانية- أن السبب وراء هذه الادعاءات ليس أكثر من عجز الولايات المتحدة عن منافسة الشركات الصينية الصاعدة، لأنه بالإضافة إلى منع الشركات الصينية من ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة، سعت الولايات المتحدة إلى الضغط على الدول في مختلف أنحاء العالم لحرمان الصين من الوصول إلى الأسواق الخارجية.
«دفاعاً» عن الحصة العالمية
في هذا السياق، ليس صعباً تفسير سبب وجود رئيسين «متعاكسين» مثل ترامب وبايدن ولديهم سياسات خارجية متماثلة إلى حد بعيد، ذلك أن من له مصلحة من هذه السياسات هي نخبة الحكم من أصحاب الربح، الذين يؤثرون في السياسة الخارجية الأمريكية بغض النظر عمّن يجلس في البيت الأبيض أو الكونغرس، هذه النخبة ذاتها التي ترى أن حصصها في السوق العالمية وما يرتبط بها من قوة ونفوذ تحت التهديد من جانب المنافسين الصاعدين، ما يعني أنها محاولة أمريكية مستمرة لـ«حماية» حصتها من السوق العالمية عبر التهديدات والبلطجة، نتيجة عجزها عن المنافسة.
ومن المؤشرات المهمّة على هذا التوجه العدواني الأمريكي اتجاه الصين، تبرز «الجولة» التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع، لويد أوستن، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك زيارات إلى كوريا الجنوبية واليابان.
في هذا الإطار، ادّعت مجلة «السياسة الخارجية» الأمريكية في مقال لها بعنوان «بلينكن وأوستن في اليابان لتعزيز الحلفاء الآسيويين»: «تريد إدارة بايدن حث اليابان أكثر على الدفاع وحل التوترات بين طوكيو وسيول»، واستشهد المقال بمادة افتتاحية كتبها بلينكن وأوستن في صحيفة واشنطن بوست قالا فيها: «قوتنا المشتركة تجعلنا أقوى عندما يتعين علينا أن نضغط على عدوان الصين وتهديداتها... إذا لم نتصرف بحزم ونقود، فإن بكين ستتصرف».
وهنا تتضح العقلية الأمريكية التي لا ترى في آسيا سوى مساحة للمنافسة والسيطرة، وترى الصين بمثابة منافس وطرف يسابقها إلى ذلك، لا طرفاً يقف في وجه منطق الهيمنة ذاته كما هو الواقع. وهنا يبدو واضحاً، أن الأسباب العميقة للتصعيد الجاري في شرق آسيا تكمن فعلياً في دأب واشنطن المحموم وغير المنطقي للحفاظ على النفوذ غير المبرر، بل وحتى الانفراد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
الحرب الدعائية سلاح وحيد
لتأمين أكبر قدر ممكن من الضغط، تدأب واشنطن على شن حرب دعائية ضد الصين، مستشهدة بمزاعم ملفقة وكاذبة عن «القمع» و«الإساءة» الصينيين في هونج كونج وتايوان وشينجيانغ والتبت.
وبهذا الصدد، تكرر ورقة وزارة الخارجية الأمريكية بعنوان «منطقة المحيطين الهادئ والهندي الحرة والمفتوحة: النهوض برؤية مشتركة»، هذه الادعاءات الكاذبة، قائلة: «تمارس الصين القمع في الداخل والخارج. إن بكين غير متسامحة مع المعارضة، وتسيطر بقوة على وسائل الإعلام والمجتمع المدني، وتقمع بوحشية الأقليات العرقية والدينية. وهذه الممارسات، التي تصدّرها بكين إلى بلدان أخرى من خلال نفوذها السياسي والاقتصادي، تقوّض الظروف التي عززت الاستقرار والازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ منذ عقود».
ما يدعو إلى السخرية في هذا الصدد، أن الحديث الأمريكي عن «الاستقرار والازدهار» لا يجري في قارة متخيلة بنتها الولايات المتحدة وسيجتها بسياج الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل في مساحة جغرافية شاسعة طوقتها السياسات الأمريكية بعدد متزايد من بؤر التوتر الجاهزة للانفجار في أية لحظة. وهي المساحة ذاتها التي تعمل القوى الصاعدة اليوم على تأمين منظومات الأمن الجماعي فيها، بما يضمن كف اليد الأمريكية عن التدخل في الشؤون الداخلية لها.
التراجع خلف ستار الدعاية
وسط صعود الصين، تتمتع المنطقة بمستويات غير مسبوقة من التنمية المتسارعة من خلال المشاريع التي تم بناؤها بالتعاون مع جمهورية الصين الشعبية، وذلك كله يتناقض تناقضاً صارخاً مع عقود من الحرب التي أشعلتها التدخلات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية، وفي جميع أنحاء جنوب شرق آسيا، كجزء من حرب فيتنام والعمليات العسكرية المجاورة. هذه الصراعات التي خلّفت في المنطقة ندوباً دائمة، وفي العديد من الحالات لا تزال تشوه وتقتل الناس حتى يومنا هذا، مثل: الأثر المتبقي للأسلحة الكيميائية المستخدمة في فيتنام، أو الذخائر غير المنفجرة التي ألقتها الولايات المتحدة على دول، مثل: لاوس.
تحت هذه الطبقة الرقيقة من الدعاية الأمريكية، تكمن حقيقة تراجع الغلبة الأمريكية في مختلف أنحاء العالم، وعدم اهتمام واشنطن ونخبها الحاكمة بتعديل السياسة الخارجية الأمريكية بما يتناسب مع وزنها ووضعها الجديدين، نحو دور تعاوني وبنّاء بين دول العالم، بدلاً من التطلعات التي لا يمكن تحقيقها للسيطرة على العالم، وإحكام القبضة على رقبة شعوبه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1011