روسيا- تركيا والشراكة الإستراتيجية

روسيا- تركيا والشراكة الإستراتيجية

باتت تتردد في تصريحات الرسميين الروس والأتراك بشكل متكرر عبارات تشير وتؤكد على إيجابية العلاقات الروسية- التركية وتطورها اللاحق، كان آخرها تصريحاً للمتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف، بقوله «تركيا شريك مهم لروسيا، وشريك إستراتيجي»، ولكن يمتلئ الفضاء الإعلامي بأنواعه موادّ إخبارية كانت أم تحليلية، وبالاستناد إلى مجريات من الماضي أو الحاضر، تدفع بصورة توحي باتجاهٍ مختلف، فهل تمتلك موسكو وأنقرة طريقاً لبناء وتثبيت شراكة إستراتيجية فعلاً، أم أن هذه التصريحات مجرد أقوال لتهدئة توتر العلاقات بين الدولتين مؤقتاً كما يستنتج البعض؟

للإجابة عن السؤال السابق، سنحاول بشكل مختصر ومكثف استطلاع العلاقات الروسية- التركية بجوانبها الاقتصادية والسياسية والعسكرية خلال السنين القريبة السابقة، وبناء استنتاج بالاستناد إليها حول التطور اللاحق بين البلدين، بعيداً عن التأثر بجزئيات ومجريات الحاضر التفصيلية.

في العلاقات الاقتصادية

وفقاً للبيانات الرسمية التركية، والمراكز البحثية المختصة، تعتمد تركيا بنسبة نحو 50% من استهلاكها للغاز على الواردات من روسيا عبر الأنابيب القديمة والجديدة التي يجري بناؤها، ونذكر منها: خطوط السيل «الروسي- التركي القومي» و«الأزرق» و«الأزرق-2» و«التركي»، إضافةً إلى كون تركيا منطقة عبور أساسية لصادرات الغاز الروسي نحو مناطق وبلدانٍ أخرى، وتعتبر تركيا بالنسبة لروسيا ثاني أهم مستورد للغاز بعد ألمانيا، التي يجري العمل معها على بناء «السيل الشمالي-2».

وفي مجال الطاقة نفسه، فقد أعلن رئيسا البلدين، فلاديمير بوتين، ورجب طيب أردوغان، عن بدء بناء المفاعل النووي الثالث في منطقة «أكويو»، المشروع الذي بدأ في عام 2010 وباستثمار من شركة «روس اتوم» الروسية بكلفة تقدر بـ 20 مليار دولار، منها 93% ممول روسياً كاستثمار لبناء 4 محطات في المنطقة التي تعد الآن من أكبر مواقع الطاقة النووية في العالم، وقد تم الانتهاء من بناء المفاعل الأول في عام 2018، وبدأ بناء الثاني في حزيران 2020، ليجري الآن بدء بناء الثالث، ومن المزمع أن ينتهي بناء المفاعل الرابع وبدء إنتاج الطاقة عبرهم في عام 2023، وستنتج المفاعلات الأربعة طاقة قدرها 4800 غيغا واط، مما سيوفر نسبة 10% من حاجة تركيا من الكهرباء وفق تصريح عن الرئيس أردوغان، ولتدخل بذلك تركيا قائمة الدول المنتجة للطاقة النووية.

وفي العلاقات التجارية يحظى البلدان بمراتب متقدمة لدى بعضهما البعض، حيث وصلت قيمة الصادرات الروسية إلى تركيا في عامي 2018 و2019 إلى 21 مليار دولار، بعدما كانت في 2017، 19 ملياراً، وفي 2016 قرابة 14 ملياراً فقط، وفقاً لبيانات مركز «Trading Economics» وتتصدر قائمة السلع المصدرة (الفيول، والمحروقات، والحديد والفولاذ)، وبتطور يوضحه الجدول الآتي (ملاحظة: تراجع عام 2015 يعزى إلى الأزمة السياسية المؤقتة التي جرت بين البلدين إثر إسقاط الطائرة العسكرية الروسية في ذاك العام):

أما صادرات تركيا إلى روسيا فقد وصلت قيمتها في عام 2013 إلى نحو 700 مليون دولار قبل أن تبدأ بالتراجع بين 2014 إلى 2016 بسبب الأزمة السياسة السابقة بين البلدين، بالتزامن مع العقوبات الاقتصادية، والأزمة في الداخل التركي لتعود إلى تعافيها وصعودها منذ 2017 إلى الآن كما يوضح الجدول التالي:

لتؤكد البيانات السابقة منذ 2016 حتى الآن إلى تطور إيجابي ومتصاعد بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين.

في العلاقات السياسية

بطبيعة الحال، إن لكلتا الدولتين أجندات ورؤى ومصالح مختلفة- ومتعارضة في بعض الأحيان- حول العديد من المحطات والمواضيع والملفات المختلفة، ويُعد هذا وضعاً طبيعاً للعلاقات المتداخلة بين الدول، بيد أن الفرق يكمن بين التعاون أو التوتر الناتج عن كيفية حلحلة هذه الاختلافات والتناقضات بأشكال تؤمن مصالح الطرفين على حد سواء، دون أن يحدّ واحداً منهم الآخر أو «يهيمن» عليه وعلى سيادته، ونشهد هذه الاختلافات في العديد من الملفات السياسية دولياً، سواء في سورية أو قره باغ أو ليبيا إلخ، وقد شهدت العلاقات الروسية- التركية انعطافاً أساسياً في عامي 2015 و2016 بعد حدثي إسقاط الطائرة العسكرية الروسية في الأجواء السورية، ثم محاولة الانقلاب التركية التي كان لروسيا دور إيجابي هام في تأريضها وإطفاء الأزمة قبل أن تشتعل، لينتج بعد ذلك تفاهم «استانا» الذي بدأ حول الملف السوري، وأدى إلى العديد من الاتفاقات الهامة التي نفذت ولا يزال يجري تنفيذها، مما أدى إلى وقف الاقتتال المسلح بدرجة كبيرة، وتطورت العلاقات بين موسكو وأنقرة منه، لتشمل ملفاتٍ أخرى أثبتت خلالها إمكانية التفاهم والتوصل إلى حلول وسط لا تفيد فقط الدولتين وحدهما، وإنما الدول المعنية بهذه الاتفاقات أيضاً، عبر إنهاء الأزمات والدفع بالتسويات السياسية، كما يجري الآن في الملف الليبي وقبله أزمة إقليم قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان.

في العلاقات العسكرية

على الرغم من أن تركيا عضو في حلف الشمال الأطلسي «الناتو» إلّا أن علاقاتها العسكرية الأخيرة مع روسيا وتطورها تجعل من عضويتها في الحلف على المحك، ويشهد بذلك استيراد منظومة الدفاع الجوي الروسية «اس-400» بمقابل «باتريوت» الأمريكية، والتي أدت إلى أزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية سببت بعرقلة استيراد أنقرة لطائرات «إف-35» وفرض عقوبات عليها دون أن تتنازل عن حقها سواء في امتلاكها لمنظومة الدفاع الروسية، أو لصفقة الطائرات مع أمريكا، ويجري الحديث الآن عن استيراد تركيا لمقاتلات روسية من طراز «سو-35» و«سو-57» .
إضافة إلى ذلك، وبما يوازيه أهميةً ضمن العلاقات العسكرية، هو التعاون العملي والحيّ المباشر في الميدان بين القوات الروسية والتركية، وتنفيذاً للاتفاقات والتفاهمات المشتركة ذات الصلة، كما جرى ويجري في الملف السوري من نقاط مراقبة وعمليات ودوريات مشتركة، وجرى في إقليم قره باغ بالمثل، مما يدفع بالمزيد من بناء عوامل الثقة المتبادلة.

شراكة إستراتيجية؟

تشير البيانات السابقة بمختلف أنواعها إلى تطور إيجابي ملحوظ ومستمر بشكل متصاعد بين روسيا وتركيا بالمعنى التاريخي للمسألة، أي: على الرغم من وجود مفاصل جزئية محددة تختلف وتتعارض بها الدولتان بالمقياس اليومي واللحظي «التفصيلي»، كان أكبرها وأشدها أزمة إسقاط الطائرة، إلّا أن هذه الجزئيات تأتي في سياق أعم يجري حلحلتها سريعاً بفعل العوامل الموضوعية والتاريخية التي تدفع كلتا الدولتين باتجاه التقارب من بعضمها البعض، ليكون بالمحصلة: أن العلاقات تعتبر نواة شراكة إستراتيجية هو أمر يمضي بناؤه رغم كل محاولات الغربيين لإفشاله وتشويهه وعرضه بطريقة مغايرة إعلامياً وسياسياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1009
آخر تعديل على الإثنين, 15 آذار/مارس 2021 08:51