مبادرة الحزام والطريق... العولمة بنموذجها الجديد

مبادرة الحزام والطريق... العولمة بنموذجها الجديد

تتجه أنظار العالم إلى الصين، ولا يخفى على أحد أن الكثير من الريبة تسيطر على المراقبين، ولنكون واقعيّين، لهذه الريبة أساسات موضوعية لا يمكن تجاهلها، فنمو الصين السريع وقدراتها العالية على التوسع الاقتصادي والتجاري جعلها حاضرةً في كل مكان، فلا يمكن الحديث اليوم عن أي مجالٍ من مجالات الإنتاج والاستهلاك دون ذكر اسم الصين، وهذا ما يحفّز جزءاً من الذاكرة القريبة لسكان الكوكب، تلك المرتبطة بالعولمة الغربية ونتائجها السلبية على حياتهم.

يصعب فهم مبادرة الحزام والطريق الصينية لا لأنها سرّية ومن الصعب معرفة طبيعتها، بل على العكس تماماً فصعوبة فهم هذه المبادرة يرتبط بشكلٍ من الأشكال بدرجة علنيتها! فهذا أمرٌ غير مألوف في عالمٍ ساده «التآمر السياسي والاقتصادي».

«ألف باء» مبادرة الحزام والطريق

أعلنت الصين هذه المبادرة في 2013، ولنتمكن من فهمهما بشكل بسيط، يمكننا القول: إنها تتألف من مجموعة ضخمة من اتفاقيات الشراكة بين الصين ودول العالم عبر آسيا إلى أوروبا أو إفريقيا. ويمكننا القول: إن هذه المبادرة تعدّ الوعاء الذي يحتوي كل تلك الاتفاقيات التي تبرمها الصين مع دول العالم، والتي وإن لم تندرج رسمياً ضمن «الحزام والطريق» لابد وأن ترتبط به بشكلٍ من الأشكال. فهذه المبادرة ببساطة هي المحدد لفلسفة الصين في صياغة شراكاتها الخارجية.

تنكبّ مجموعة من الباحثين والكتاب لسبر تلك المبادرة، ففي الوقت الذي لا يضمن بعض هؤلاء الباحثين «نوايا الصين الطيبة» إلا أنهم بمعظمهم يقرّون بأن العولمة التي تطرحها الصين، تختلف جذرياً عن العولمة الغربية التي سادت العالم منذ نشوء السوق العالمية المشتركة. ففي كتاب للكاتب جون بيرلي، يصف فيه مبادرة الحزام والطريق بأنها «عولمة بنكهة اشتراكية ذات خصائص صينية بفلسفة كونفشيوسية»، وإن كان هذا الوصف يجب أن يقترن بالكثير من البراهين، وهو ما يحاول بيرلي في كتابه أن يفعله، إلّا أنه يضع هذه المبادرة ضمن تصنيف جديد تختلف فيها عمّا عرفناه سابقاً. ولنتمكن من فهم هذه المبادرة بشكلٍ أعمق، لا بد لنا أن نقف عند اثنين من العناوين العريضة التي ترتبط بهذه المبادرة.

البنية التحتية

يفرد الكاتب جون بيرلي في كتابه «العولمة الصينية ومبادرة الحزام والطريق» مساحة واسعة لاستعراض وتحليل استثمار الصين في البنية التحتية للدول التي تعتبر جزءاً من المبادرة الصينية، وتشير التقديرات التي أوردها الكاتب إلى أن الصين «رصدت بين عامي 2016 و2017 لتطوير مشروعات البنية التحتية في بلدان جنوب شرق آسيا، وإفريقيا، وأوروبا الشرقية البالغ عددها 80 بلداً موازنة تجاوزت 320 مليار دولار في بلدان يبلغ عدد سكانها نصف سكان العالم، وتساهم بربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي»

فترى المبادرة- حسب بيرلي- في مشروعات البنية التحتية، فرصة لربط مناطق جغرافية واسعة ببنية تحتية متكاملة تصل الصين ببقية العالم بطرق متنوعة، ليتم هذا الربط إما بشكل مادي، أي: عبر طرق بحرية وبرية وجوية، أو أن يتم الربط عبر شبكة من المؤسسات المالية المصرفية، ويجري العمل أيضاً على ربط هذه الكتلة الجغرافية السياسية بشكلٍ اجتماعيّ أيضاً عبر مشروعات سياحية وثقافية تحقق المنفعة المستدامة للجميع.

يشرح بيرلي في كتابه أيضاً، كيف ترى بكين في مجالها الإقليمي المباشر «عاملاً حاسماً في تحقيق نجاح مبادرة الحزام والطريق»، فالصين تعرف تمام المعرفة، أن إنجاز هذه المبادرة وخروجها إلى الوجود لن يتم إلّا من خلال رؤية متكاملة ومستدامة تضمن لجميع الأطراف قيمة مضافة تخدم مصالحها. وتعتبر منطقة بحر الصين الجنوبي فرصة كبرى لبكين لتعزيز مواقعها عبر تطوير البنية التحتية في تلك المنطقة، والتي تستطيع إذا ما نجحت في هذه المهمة، أن توفّر «خدمات ملاحية متكاملة تغطي خدمات البحث والإنقاذ البحري، والسلامة الملاحية، وعلوم المحيطات والبحوث المرتبطة بها وغيرها من الخدمات الأخرى التي تعاني جزر بحر الصين الجنوبي من نقصٍ فيها»

كما ذكرنا في البداية، لا تستثمر الصين في البنية التحتية في إقليمها فحسب، بل شملت الاستثمارات هذه رقعةً واسعةً من الكوكب. فهذا النوع من الاستثمارات لا يعود على أصحابه بمنفعة مادية مباشرة وسريعة، لكنه يعد حجر الأساس في «مبادرة الحزام والطريق»، فوجود شبكة متطورة تربط هذا الجزء الحيوي من الكوكب يعتبر اللبنة الأولى في بناء الشراكة الضخم الذي بات ضرورة عالمية.

النزاعات الدولية في إطار الحزام والطريق

يرتبط هذا المشروع كل الارتباط بالسياسة، فهذا النمط الصيني من الشراكات الواسعة يتطلب أرضية سياسية من نمط خاص، ويُنتج أرضية سياسية محددة، فلا يمكن الحديث عن نجاح هذا المشروع إلى عبر رضا الأطراف كافة، أي: عبر تفاهمات سياسية تكون في حدّها الأدنى اتفاقات مصلحية تنتهي بانتهاء المصلحة، وفي حدّها الأعلى صداقات وشراكات طويلة الأمد. يفرض هذا الحديث على الصين أن تلعب دوراً فاعلاً في حل كل النزاعات الحدودية القائمة اليوم في تلك المنطقة الحساسةـ بالإضافة إلى إخماد التوترات والأزمات السياسية، لا في محيطها القريب فحسب، بل عبر تلك المنطقة الممتدة من بكين إلى آسيا الوسطى، فحوض المتوسط والدول المحيطة به ومنطقة الخليج وصولاً إلى إفريقيا.

يفرد كتاب آخر من تأليف جون بيرلي وبيتر مورفي، مساحة لنقاش الدور الذي تلعبه الصين في حل النزاعات الحدودية، ويورد مثالاً عن النزاع القائم على الحدود البحرية بين تيمور الشرقية وأستراليا، فعلى الرغم من أن البلدين قد وقّعا على اتفاقية بتاريخ 8 آذار 2018 في نيويورك تم بمقتضاها ترسيم الحدود البحرية بينهما، إلا أن مشكلة استثمار الغاز من الحقول الواقعة في هذه المناطق الحدودية ظل عامل توتير مستمر، ويشير الكتاب إلى الدور الكبير الذي تلعبه مبادرة الحزام والطريق في تقريب وجهات النظر بين البلدين من «خلال مقاربة استثمارية وتشاركية تمكن كل الأطراف من تحقيق قيمة مضافة تساعدها على بلوغ أهدافها التنموية وفق منطق رابح– رابح».

لا نقول إن المنطقة التي تشملها مبادرة الحزام والطريق تعيش أفضل أيامها، فتنتشر فيها مجمل النزاعات السياسية القائمة في العالم اليوم، وتلعب الصين دوراً ضاغطاً أساسياً لحل هذه الخلافات، فهذه النزاعات، قبل كل شيء، العقبة الأولى والأساسية أمام خطوات الصين الطموحة. الشراكة الروسية الصينية سمحت بتنسيق جهود البلدين عبر شبكة من الاتفاقات التي بات من الصعب فصلها، ومن هذه الزاوية يمكن فهم الجزء الأهم من السلوك الصيني- ا لروسي على المستوى العالمي، فالبلدان يسعيان اليوم إلى إيجاد المخارج وإرساء الاستقرار الضروري الذي يعتبر الشرط الأساسي للإعلان عن وزنهم الجديد عالمياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1003
آخر تعديل على الإثنين, 01 شباط/فبراير 2021 08:19