هكذا تقول الإمبراطوريات وداعاً
اقتحم مؤيدو دونالد ترامب مبنى الكونغرس الأمريكي (الكابيتول) يوم الأربعاء الماضي، في محاولة لمنع التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية. ورغم «السيطرة على الوضع بسرعة»، إلّا أن السياسيين والرأي العام عموماً بات أقرب إلى القناعة بأن أعمال العنف داخل الكابيتول ليست سوى بداية مسار طويل من العنف، وأن الآثار بعيدة المدى على البلاد قد لا يمكن السيطرة عليها.
الطريق الأسهل الذي اختارته تحليلات عدّة للوضع في الولايات المتحدة، هو تقزيم المسألة لتبدو وكأن رئيساً أرعن قرر– في غفلة من الديمقراطية الأمريكية- أن يتمسّك بالسلطة ويدفع بالبلاد صوب الهاوية، وفي ذلك تجاهل مقصود لملامح الأزمة التي تواجه النظام الأمريكي ككل، وتضع مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كدولة على طاولة البحث.
إعلان حزبي
في الوقت الذي لا يعرف فيه أحد مآلات الوضع من الآن حتى اليوم العشرين من هذا الشهر، والمفترض أن يكون يوماً لتنصيب بايدن، يواجه «الحزب الديمقراطي» حقيقة أنه سيقود حكومة غير مستقرة في خضم أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية (حيث اضطر الحزب لتوزير طيف واسع من القوى المنضوية تحت لوائه، وهي قوى متباينة في الرؤى إلى حد دفع الكثيرين لتوقع استقالات متكررة من الحكومة على غرار ما كان يحدث في عهد ترامب)، ما يعني أن وعود العودة إلى الحياة الطبيعية التي كان يطلقها جون بايدن خلال حملته الانتخابية سوف تواجه تحديات موضوعية عدة.
في الواقع، لم يكن اقتحام مبنى الكابيتول تمرداً أو انقلاباً كما تصرّ وسائل الإعلام الغربية السائدة، بقدر ما كان إعلاناً غير تقليدي عن تشكيل حزب أمريكي جديد، حزب ترامب وما يمثله من نفوذ غير قابل للنكران في صفوف شرائح واسعة من المجتمع الأمريكي (بالمناسبة، تقدر تحليلات عدّة أن ترامب لم يبادر بعد باستخدام أهم ثلاث أوراق بيده، وهي نفوذه الواسع في صفوف رجال الشرطة، ورؤوس الأموال المحلية، وصولاً إلى كبار القضاة والإداريين).
وفي الوقت الحالي، فإن مؤسسة الحكم (من الجمهوريين والديمقراطيين وبعض قطاعات الجيش) متحدة ضد تيار ترامب الذي يهدد بتمزيق الغلاف الهشّ لأكذوبة الديمقراطية الأميركية. لكن ما لا يجري الحديث عنه هو: أن هذا التوافق هو توافق غير مستقر، هدفه المباشر تحييد ترامب عن السلطة، لكن بمجرد الانتهاء من هذه المهمة فإن هذا التوافق سيتداعى، وستنخرط أطرافه في خصومات جدية على أولويات إدارة البلاد خلال أكثر مراحل عمرها حرجاً. فماذا لو كانت مسألة تحييد ترامب بحد ذاتها مسألة غير محسومة بعد؟
احتضار الحزبين كما نعرفهما
يواجه «الحزب الديمقراطي» أزمته الداخلية الخاصة المعبّر عنها بالصراع بين الجناح المحسوب على نخبة المؤسسة، وجناح «اليسار» الوهمي الذي خلقته هذه المؤسسة تماشياً مع حالة الاستياء المتزايد داخل الحزب من جهة، والحركة اليسارية المتنامية في الولايات المتحدة، والتي تبحث عن أشكال التنظيم من جهة أخرى. ومع اضطرار «الحزب الديمقراطي» لتنفيذ تدابير التقشف في المستقبل، من المرجح أن يصل هذا الصراع إلى نقطة الغليان.
في المقابل، تنشأ داخل «الحزب الجمهوري» للمرة الأولى ظاهرة مرشحة لتكون أكبر من الحزب ذاته، وهي ظاهرة ترامب التي تعمل على استيعاب واحتواء مفرزات أزمة عام 2008 في صفوف أكثر الأوساط المحافظة تعرضاً للضرر، وهي القاعدة التي أدرك ترامب ضرورة دغدغة شعورها بخطابه الشعبوي الذي يظهر للوهلة الأولى كما لو كان خطاباً مختلاً لا يستند إلى أسباب موضوعية. ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت ستأتي لحظة يتمكن فيها الحزب من إعادة أنصار ترامب إلى صفوفه، أو أنه خسرهم إلى الأبد.
في ضوء تراكم عوامل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، يواجه الحزبان أزمة فقدان الهيمنة على قاعدتيهما الجماهيريتان، حيث يفقد عدد متزايد من الناس الثقة في «الديمقراطية» الأمريكية، ويجدون أن الحزبين السائدين في ساحة الصراع السياسي الأمريكي غير قادرين على تمثيل مصالحهم وعكس تطلعاتهم المستقبلية.
ليست حالة استثنائية
اقتحام الكابيتول مؤشر جديد لأزمة أكبر بكثير تطال عمق النظام الأمريكي، أزمة المؤسسات التي ضمنت سابقاً استقرار الحكم في الإمبريالية الأمريكية: المجمع الانتخابي، ومجلس الشيوخ، ونظام الحزبين، والشرطة، والمحكمة العليا، والرئاسة. وفقدان الثقة بالمؤسسات من جانب الجميع هو عنصر من عناصر عدم الاستقرار والتخبط في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية. وفي كل الحالات، فإن هذا التخبط ليس حالة أمريكية فريدة، بل سمة عامة اشتركت فيها كل الإمبراطوريات التي تهاوت تاريخياً، والتي للمفارقة تشابهت أيضاً بأنها لجأت جميعها إلى تفسيرات إنكارية لحالات التراجع التي أصابتها، تماماً كما يجري اليوم في الولايات المتحدة، حيث يرفض أيتام الإمبراطورية الأمريكية الذين اعتادوا على فكرة تسيدها للمشهد العالمي أن ينظروا نظرة موضوعية على التغير الذي طرأ على وزنها النوعي.
وإذا كانت الأزمات تطور أدوات المواجهة لدى الأغلبية المسحوقة على غرار ما رأيناه خلال بداية انتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة من جانب العمال الذين يناضلون ضد ظروف العمل غير الآمنة، فهنالك فرصة كبيرة لليسار لتنظيم وتقوية نفسه وبناء بديل سياسي من أجل المستغلين والمضطهدين المستقلين عن قيود «الحزب الديمقراطي»، حيث على اليسار أن يدعم المقاومة ضد التقشف الرأسمالي الذي بدأت تلمّح إليه أوساط الحكومة الأمريكية المقبلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1000