إلى أين ستذهب تركيا؟
يعود السؤال الكبير حول مستقبل العلاقات التركية- الأمريكية والتركية- الأوروبية مع الإعلان عن حزم العقوبات الجديدة التي فرضاها الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية. وإلى جانب الحديث عن طبيعة هذه العقوبات ومدى جديتها، ينبغي لنا القول بأن هناك مدخلاً وحيداً لفهم طبيعة التحولات الجارية، وذلك عبر فهم طبيعة التغيير الذي يشهده التوزان الدولي، وما سينتج عنه من اصطفافات جديدة تتبعها آلاف الصورٌ التذكارية للأصدقاء الجدد.
قامت إدارة الرئيس الأمريكي بإصدار حزمة عقوبات على تركيا، وذلك رداً على شراء تركيا لمنظومة الدفاع الروسية S-400، وأعلن الاتحاد الأوروبي عزمه فرض عقوبات على تركيا بعد قمته الأخيرة المنعقدة في بروكسل في 10-11 من شهر كانون الأول الجاري.
العقوبات الأمريكية
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية مساء يوم الاثنين 14 كانون أول في بيانٍ لها: أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية «SSB» وفقاً للمادة 231 من قانون «مكافحة خصوم أمريكا» (CAATSA)، بالإضافة إلى عقوبات أخرى شملت أفراداً من بينهم رئيس إدارة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير، لكن الجزء الأكثر تأثيراً في هذه العقوبات هو فرضُ حظرٍ على جميع تراخيص وتصاريح التصدير الأمريكية إلى إدارة الصناعات الدفاعية التركية «SSB»، بالإضافة إلى قيود مالية ضد المؤسسة، مما يعني في النهاية ضربة للعلاقات العسكرية بين البلدين. ورغم أنه لا يمكننا معرفة حجم تأثير هذه العقوبات بدقة، لكن آثارها ستظهر على السطح سريعاً، فتركيا متمسكة بخط سيرها ولا تظهر أية نية للتراجع، ففي تصريحات لوزير الخارجية التركي مولود تشاوويش أوغلو، قال: إن «فرض واشنطن عقوبات على أنقرة قرار خاطئ سياسياً وقانونياً، واعتداء على السيادة التركية، ولا يمكن حل المشاكل عن طريق فرض العقوبات»، مضيفاً أن «بلاده لن تتراجع عن امتلاك منظومة (إس400) الصاروخية الروسية، رغم العقوبات، وستتخذ خطوات مماثلة بعد تقييم العقوبات الأمريكية المفروضة».
العقوبات الأوروبية
بعد إعلان قمة بروكسل نيتها فرض عقوبات ضد تركيا، جاء الإعلان عن هذه العقوبات أقل من المتوقع، فلم تتعدّ هذه العقوبات إلا قائمة أسماءٍ سوداء، أي: إن هذه العقوبات التي جرى إبلاغ تركيا بمضمونها، لا تفرض قيوداً كبرى على تركيا، وفي الوقت الذي يرى البعض أن هذه العقوبات تعد خطوة جديدة ضمن الضغط التدريجي الذي يمارسه الاتحاد الأوروبي ضد تركيا. يبدو واضحاً أن هذه الخطوة المتواضعة بحق تركيا تعكس مزاجاً مختلفاً داخل الاتحاد، فبات من المعروف أن فرنسا وقبرص اللتين تقودان هذا التوجه لم تنجحا في تجاوز العقبات الكبرى التي تضعها ألمانيا في مواجهتهم. فما جرى فعلياً هو تأجيل نقاش العقوبات حتى آذار المقبل، وأعلنت ألمانيا رغبتها نقاش هذا الملف مع الإدارة الأمريكية الجديدة، لتحاول بذلك تخفيف الآثار السياسية التي ستنتج عن السلوك الأمريكي، وتعيق انجرافاً أعمى للاتحاد وراء التوجه الأمريكي، الذي تتوقع ميركل أن يتغير مع استلام الإدارة الجديدة.
أجرى الرئيس التركي عقب هذا الإعلان اتصالاً مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبعد شكرها «لمساهماتها البناءة وجهودها لصالح العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي» أعلن الرئيس التركي رغبته «فتح صفحة جديدة للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي»، وليعلن أيضاً عن ضرورة إنقاذ العلاقات التركية- الأوروبية، وعن الحاجة لإعادة إطلاق الحوار مع الاتحاد على أساس المصالح المتبادلة.
هي مناورات في الوقت المستقطع؟
لماذا الآن؟ ما الذي يدفع واشنطن لإقرار العقوبات في هذه اللحظة بالذات؟ فعلى الرغم من تراجع وزنها على المستوى العالمي إلا أن جزءاً كبيراً من الملفات الدولية لا يمكن فهمها دون فهم سلوك الولايات المتحدة حولها. فيمثل هذا السلوك في هذه المرحلة صدمة حقيقية لجمهور عريض من العاملين في الشؤون السياسية والمحللين السياسيين، فعلى الرغم من الإعلان الرسمي عن فوز جو بايدين في انتخابات الرئاسة الأمريكية، تستمر رغم ذلك إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب باتخاذ القرارات التنفيذية المتلاحقة، والدفع باتجاهات محددة، وإطلاق التصريحات وخلط للأوراق. وهذا السلوك مناقضٌ تماماً لسياسية «البطة العرجاء» التي ألِفها معظم المحللين السياسيين. نظرياً، يستطيع الرئيس الجديد إلغاء هذه القرارات لحظة وصوله إلى المكتب البيضاوي، وهذا ما يدفع بعض المحللين للقول بأن ترامب يحاول استغلال الوقت المستقطع هذا، لكن المجهول بالأمر هو: ما الذي تتوقعه إدارة ترامب إذاً من سلوك كهذا؟
يمكن لنا تشبيه ما يجري بإطلاق زوارق شراعية لتمضي مع التيار الجارف، ليكون إيقافها شبه مستحيل، حتى وإن كانت النية موجودة لذلك! فترامب يدفع بسلوكه هذا جملة من الملفات الدولية نحو حدودها القصوى، مما يسمح لها بالتفاعل بشكل متسارع حتى بعد وصول بايدن الذي لن يستطيع إيقاف هذه التفاعلات. الإعلان عن العقوبات في هذه اللحظة يتطلب من الجميع ردّات فعلٍ، ويعطي ذرائع كافية لتركيا وغيرها لتمضي في صياغة علاقاتها بعيدة عن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن هذه العملية تجري منذ زمن، لكن القرارات والسلوك الأمريكي سيكون بمثابة دافع جديد في هذا الاتجاه. يمكن الاستدلال على هذا الأمر من التجربة الإيرانية مثلاً، فتضييق الخناق عليها وسياسة الحصار دفعت إيران بالاتجاه الوحيد المتاح، وهو التقارب الإستراتيجي مع الصين وروسيا، مما ساهم بإظهار التراجع الأمريكي بشكل أوضح، وأنقرة ستتصرف بالشكل نفسه، إن كان هناك إرادة حقيقية بتجنب الانهيار.
جزء من أي برنامج؟
تعقيد هذه المسألة يصعّب التنبؤ بالصورة النهائية بلا شك، فمحاولة ألمانيا تخفيف الضغط عن تركيا في هذه المسألة يعني رغبتها بعدم خسارتها، فتركيا كانت عنصراً مهماً بالنسبة للغرب في تاريخه القريب، ولعبت أنقرة دوراً في السياسيات الغربية لقاء أجرٍ سياسي مجزٍ، وإن كان فريقٌ في واشنطن لا يمانع من انتقال تركيا إلى المحور المقابل، لا ترى ألمانيا الأمر من الزاوية نفسها. فبرلين تقف في وجه السلوك الأمريكي الذي يحرمها من بناء علاقات مع روسيا أيضاً، ويجعل مشكلتها مشتركة مع تركيا من هذا الجانب، لكن ومن جانب آخر يدرك الاتحاد الأوروبي أن الولايات المتحدة تتراجع عن لعب دورها في ملفات أوروبا تدريجياً، ومن هنا لا ترى ألمانيا جدوى من التفريط بتركيا، فحتى لو كان بناء علاقات إستراتيجية مع روسيا والصين أمراً لا مهرب منه، فوجود اتحاد أوروبي متين يعتبر بالنسبة لبرلين فرصة لموقعٍ أفضل في شكل العلاقات الدولية المتوقعة في المستقبل القريب، ومن هنا ترغب برلين في إبطاء الانتقال التركي في محاولة للمحافظة على توازن محدد في أوروبا، لكن توجه ألمانيا ورغم وزنها الكبير في الاتحاد الأوروبي لن يتحول إلى واقع بهذه السهولة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 997