اتحاد التناحرات الأوروبي
لم يعد الاتحاد الأوروبي قائماً على المصلحة المشتركة بين دول أعضائه، هذا إذا افترضنا أنها كانت كذلك أصلاً، فالتناقض بين الدول الأغنى غرباً، والأفقر شرقاً، كان حاضراً منذ قيامه، إلا أنّ وظيفة الاتحاد اليوم باتت- بشكلٍ فاقع- أداة يجري استخدامها من جميع أعضائه سعياً إلى مصالحهم الخاصة وحدها، في فترة يصعب على أيّ من هذه الدول أن تمضي بسياسات «تعاون» حقيقية، ما لم يجرِ في كل واحدة منها أولاً تغييرٌ في سياساتها، وعلى رأسها اللبرلة والتشبيك الأمريكي، في ظل الأزمة الرأسمالية العالمية المستمرة والمتصاعدة.
من مستجدات أزمة الاتحاد الأوروبي وخلافاته خلال الفترة القريبة السابقة، بالإضافة إلى مسألة خروج بريطانيا القديمة الدائمة، اتفاق على خفض انبعاث الكربون بنسبة 55% في العام 2030، وتقديم ديون بقيمة 2,2 تريليون دولار من جميع أعضائه على التساوي من أجل التعافي الاقتصادي «بسبب موجة جائحة كورونا الثانية» بعد صدّ وردّ بين بولندا وهنغاريا مع الاتحاد، وعلى جانبٍ آخر، جرى تمتين العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وبين الصين، رغم التصعيد والتهديد الأمريكي.
تخفيض انبعاثات الكربون وديون من رقبة الأفقر
بعد مفاوضات استمرت لوقت طويلٍ سبقتها وتخللتها خلافات حادة، اتفق قادة الاتحاد الأوروبي على «خفض انبعاثات الكربون بنسبة 55% خلال العقد المقبل» والتحول إلى «الاقتصاد الأخضر»، بما يعنيه ذلك من تخفيض استخدام وحرق الفيول والغاز ومشتقات النفط في الصناعة والزراعة، عبر الانتقال إلى الطاقات المتجددة أو «الخضراء».
ووقفت بشكلٍ أساسي كل من بولندا وهنغاريا موقفاً رافضاً لهذا الطرح في البداية، معبرتان بذلك عن موقف دول أوروبا الشرقية الأفقر عموماً، على اعتبارهم غير قادرين- سواء فيما يخص الكلفة المطلوبة، أو التكنولوجيا اللازمة ودرجة تطورها في بلدانهم- على المضي بهذا التحوّل، إلى أن جرت تسوية الخلاف عبر الإقرار بأن الانتقال المزمع ستتكفل به دول الاتحاد بالتساوي، مع إعطاء تسهيلات ووقت أطول للدول الشرقية التي تعتمد بشكل كبير على الفيول.
من جهة أخرى، ساد خلافٌ آخر فيما يخص مبلغ الدَّين الذي جرى الاتفاق عليه، 2,2 مليار دولار، الموجّه لتعافي الاقتصاد الأوروبي وتنشيطه بعد موجة كورونا الثانية، بكيفية صرفه واستيفائه، حيث تقاسم النسب على التساوي بين الدول الأعضاء، يعني أن تدفع الدول الأفقر نسبةً أكبر من ناتجها المحلي مقارنةً بالأغنى، ولتذهب الحصة الأكبر من المبلغ لتعافي الأغنى أولاً.
رغم وضوح عملية النهب في الجزء الأخير المتعلق بمبلغ الدَّين، إلا أن موضوعة تخفيض انبعاثات الكربون لا تختلف عنها، والبوصلة لفهم الأمر تكمن في المصلحة خلف هذا القرار، وخلف عباءة الحرص على الأزمة البيئية والاحتباس الحراري، في ظل الأزمة الرأسمالية والتراجع الغربي عموماً.
فقرار الانتقال إلى الطاقات النظيفة من الجانب الأوروبي يأتي في مرحلة يعاني فيه الاقتصاد العالمي أساساً من أزمات تجارية متصاعدة في النفط والغاز، إثر قوة عطالة الهيمنة الأمريكية وإعاقتها للاتحاد من إجراء اتفاقات مع الصين وروسيا، «السيل الشمالي-2» مثالاً، ومن جهة أخرى فإنه بات سباقاً عالمياً في درجة تطور تكنولوجيا الإنتاج نفسها، الذي بات فيه استخدام الطاقات غير المتجددة «متخلفاً» لمحدوديته، وشرطه بتوافر مواده الخام بحده الأدنى، بغض النظر عن إمكانية دول الاتحاد على القيام بهذا التحول من عدمها، بناء على طبيعة سياسة دول أعضائه عملياً، وهو ما نزعم أنه غير قابلٍ للتطبيق فعلاً، دون إجراء تغييرات حقيقية في النظام الاقتصادي- الاجتماعي القائم، فالإنتاج عبر الطاقات المتجددة يعني إلغاء جزء هام من الربح التجاري القائم على استيراد وتصدير المحروقات بمختلف أنواعها.
أي: إن الإقرار «النظري» بضرورة الانتقال هذا جاء نتيجة الأزمة، ومعبراً عنها لدى الاتحاد الأوروبي، ولن يكون عدم قدرة «تطبيقه العملي» إلا دافعاً ومحرضاً للأزمة ذاتها.
ملف بريكست لن يُغلق
باتت مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بخلافاتها وأخبارها، أمراً حاضراً واعتيادياً في أوروبا منذ سنين، إلا أنها تزداد حديةً مع مرور الوقت، وتحديداً في هذه الفترة، حيث يكون موعد الخروج النهائي المزمع في الأول من الشهر المقبل، وسط التناحرات بين لندن والاتحاد حول وجود اتفاق من عدمه، وما سيترتب على كلتا الحالتين، وصولاً إلى أن تعلن بريطانيا عن استعدادها لنشر قوات عسكرية في مياه الصيد البريطانية، منعاً لصيادي الاتحاد الأوروبي من دخولها.
لكن وعلى الرغم من ذلك، وإن جرى الأسوأ، وفقاً للترجيحات بأن تخرج بريطانيا دون التوصل إلى اتفاق، إلّا أن ذلك لا يعني توقف المحادثات، وإنما تعميق التناقض الجاري واستمراره وزيادته تعقيداً.
وعلى خلفية الأزمة الاقتصادية وبريكست وخلافات الاتحاد وإغلاقات الوباء، يجري تراجع البورصات الأوروبية، لينخفض وفق تسجيلات يوم الجمعة: «داو جونز ستوكس أوروبا 600» بنسبة 1,3%، وانخفض قطاع الاتصالات بأكثر من 3%، وتراجعت العقود الآجلة لمؤشر «ستاندرد أند بورز 500» بأكثر من 0,9%، ومؤشر «يورو ستوك 50» بنسبة 1,5%، بالإضافة إلى تراجع عدة مؤشرات بورصات أخرى في كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
حلّ الاستعصاء الأوروبي لن يكون إلا بتغيير السياسات
تكمن مشكلة التناقضات والتناحرات الأوروبية في طبيعة سياساتها الاقتصادية في كلٍّ منها على حدةٍ، وجماعةً، بالإضافة إلى تشبيكها مع «الإمبراطورية الأمريكية» المتراجعة، وبالمثل، فإن نجاة الدول الأوروبية، بلداناً وشعوباً، لا أنظمة، يتطلب حلولاً لهاتين المشكلتين، وإذا ما كانت الأنظمة الأوروبية تعي مخاطر الولايات المتحدة عليها، وتدفع باتجاه تخفيض علاقاتها معها، والاستعاضة عنها بالعلاقات مع الشرق بكل بطء، وبالتدريج، كما يجري في «السيل الشمالي-2» مع روسيا مثالاً، وجرى مؤخراً عبر توقيع اتفاق حول الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين يوثق العلاقات الاقتصادية بينهما، رغم عويل واشنطن، إلا أنّ هذا الاتجاه لا يمكن أن يمضي لنهايته ويحل المسائل العالقة دون تغييرٍ في سياسات الدول نفسها، والتي لن تدفع بها إلّا شعوبها مع تعمّق الأزمة وآثارها عليها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 996