زمن الهزائم الغربية... كارا باخ نموذجاً

زمن الهزائم الغربية... كارا باخ نموذجاً

عندما نجحت روسيا مؤخراً في إحلال السلام بين أرمينيا وأذربيجان المتحاربتين، أحدثت صدمة في جميع مراكز الحكم الغربية، ولا سيما في فرنسا والولايات المتحدة (العضوين الآخرين في مجموعة مينسك)، حيث لفتت الانتباه إلى أن قدرة روسيا على التوسط في المفاوضات وإحلال السلام بمفردها وبسرعة يعني أنها عازمة على ضمان الأمن والسلام في جنوب القوقاز.

لم تقتصر النتيجة الروسية على إحداث السلام في المنطقة فحسب، بل وكذلك في تجاوز الدور التقليدي لمجموعة مينسك، ودفع الحل نحو التوجه الإقليمي الذي لا يتيح مجالاً للقوى الخارجية للتدخل والتلاعب لصالحها عن طريق الضغط لتأسيس قوة «حفظ سلام» خارجية في المنطقة. ومع ذلك، وبينما تمكنت روسيا من إنهاء الحرب، تواصل القوى الخارجية البحث بفعالية عن سُبلٍ لاستغلال الوضع الدقيق من خلال الحديث عن «الغموض» و«الشكوك» حول اتفاق السلام والحاجة إلى سلام «طويل الأمد». وبعبارة أخرى، تحاول فرنسا والولايات المتحدة إعادة إشعال آلة الحرب بالقرب من التخوم الروسية.

الدفاع عن صيغة غير فاعلة

مؤخراً، قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أمام برلمان بلاده: إن على روسيا «إزالة الغموض بشأن اللاجئين، وتعيين حدود وقف إطلاق النار، ووجود تركيا، وعودة المقاتلين، وبدء المفاوضات حول وضع ناغورني كارا باخ».

وعلى هذا النحو، أطلقت وزارة الخارجية الأمريكية خطابها الخاص لتشويه صورة السلام الذي توسطت فيه روسيا باعتباره «هشاً» و «ناقصاً»؛ حيث أظهر بيانها الصادر في 17 تشرين الثاني أن الولايات المتحدة لن تقبل إلا «الحل» الذي تم التوصل إليه من خلال مجموعة مينسك. وفي 20 تشرين الثاني، ووفقاً لتصريحاتهم السابقة، قال مكتب الرئيس الفرنسي «نريد أن تقوم مجموعة مينسك بدورها في تعريف المراقبة»، مضيفاً أيضاً: إن «نهاية القتال ينبغي أن تسمح الآن باستئناف المفاوضات بحسن نية من خلال مجموعة مينسك من أجل حماية سكان ناغورني كارا باخ».

ومن الواضح أن فكرة «حماية» السكان والتوقعات الاستباقية للأزمة الإنسانية ليست سوى وسيلة لإضفاء صبغة الهشاشة على وضع المراقبة، الذي رسخته روسيا، وترويج القناعة بأن الصراع يمكن أن يندلع مرة أخرى.

وبهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة وفرنسا، ومن خلال الضغط من أجل «الإشراف الدولي» على وقف إطلاق النار، لا تعملان إلّا على الحد من تقلص دورهما في المنطقة. وبعبارة أخرى، فإن فرنسا والولايات المتحدة تلعبان لعبة خاسرة مسبقاً، حيث لا يمكن أن يكون السلام الذي يتم التوصل إليه بوساطة روسيّة أو إشراف روسي إلا خسارة إستراتيجية لهما.

آستانا تؤلم الحسابات الغربية

على النقيض من تركيا، فإن الولايات المتحدة وفرنسا ليست لديهما مصالح مباشرة في جنوب القوقاز سوى رغبتهما في تقليص دور روسيا إلى الحد الأدنى، والحفاظ على ما يسمى بـ«الخاصرة الروسية غير المستقرة». تركيا من جهة أخرى، والتي صدّرت نفسها بوصفها حليفاً قريباً لأذربيجان، وتورطت في النزاع منذ أن بدأ في أيلول الماضي، لم تجد لنفسها سوى طريقاً واحداً، هو التنسيق الكامل مع روسيا بهدف إخلاء المنطقة من نشاط المسلحين الذين تورطت تركيا بإرسال عدد منهم للقتال في القوقاز.

الأهم من ذلك كله، أنه بالنسبة للولايات المتحدة وفرنسا، يمكن أن يكون التنسيق المباشر بين روسيا وتركيا بداية لشيء ما في جنوب القوقاز، شيء يشبه الدور الكبير في إبعاد القوى الغربية عن سورية، مما قلل بشكل كبير من قدرة الولايات المتحدة على التحكم بمسارات الأمور في البلاد.

وربما يكون ما صدر عن مسؤولين فرنسيين في الإليزيه، هو أوضح وأدق ما يعبر عن التقدير الفرنسي للوضع: «إننا نرى أن الروس ينسقون مع الأتراك فيما يتعلق بصيغة محتملة، لا نريدها، من شأنها تكرار صيغة عملية آستانا في هذه المنطقة الحساسة». وليس من الصعب فهم سبب المعارضة الفرنسية، نظراً لأن تكرار صيغة آستانا في جنوب القوقاز سوف ينهي فعلياً أهمية مجموعة مينسك، ويتجاهل مصالح القوى الغربية بشكل دائم.

وفي هذا الصدد، تنسَّق إيران أيضاً مع روسيا لتسريع عملية الحل جنوب القوقاز. وعلى عكس مجموعة مينسك، فإن إيران في وضع مناسب لهذه العملية، ولديها علاقات قوية مع دول القوقاز وهي تنسق بشكل وثيق مع روسيا وتركيا من خلال عملية السلام وفق صيغة أستانا، فهي ليست قوة من خارج المنطقة، وتشترك بعمق في الاهتمام الروسي والتركي بإبقاء الغرب خارج المنطقة. ومع نضج تشكيل هذا النوع من التفاهم بين روسيا وتركيا وإيران، سيتقلص المجال أمام أنصار تدويل الصراع واتفاق السلام، ويمكننا أن نتوقع من كل من فرنسا والولايات المتحدة أن تواصلا الانتقادات اللاذعة في الأسابيع والأشهر المقبلة.

أخيراً، يبقى التأكيد على أن إيجاد سلام دائم في جنوب القوقاز شيء، والاتفاقات الحالية لوقف إطلاق النار وتجميد الصراع شيء آخر، فالعملية الثانية التي بدأت للتو كفيلة بمنع تأجيج الصراع وتصعيده، وهي عملية ضرورية جداً في الوقت الحالي، من أجل حقن الدماء وإعاقة الهدف الأمريكي في تحويل المنطقة إلى بؤرة توتر متواصلة ومستمرة، أما العملية الأولى، فهي مرهونة فعلياً بإيجاد نوع من التحالفات والاتحادات الإقليمية الكفيلة بوضع حد للتناقضات القومية وتحويلها من مسبب للأزمات والصراعات إلى فرصة للتكامل والتعاون.

معلومات إضافية

العدد رقم:
996