تمائم العالم الجديد تحمي الـ «بريكس»
مع انعقاد القمة الثانية عشرة لمجموعة دول بريكس، ينطلق مجموعة من المحللين السياسيين وبعض الموظفين في وسائل الإعلام «المرموقة» للهجوم على هذا التكتل الهجين الواعد، ولأن معظم هؤلاء لا يتجرأ للإعلان صراحةً عن موقفه الحقيقي من هذه المجموعة، يميلون لنقاش ما يرون فيه «أسافيناً في نعش بريكس».
يقام مهرجان الهجاء الرخيص هذا سنوياً، ويفاجئُنا بآراء وإسهابات تكاد لا تتسع لها الدوريات والمجلّات التي تقف على أطلال العالم المظلم، الذي حكمته «الإمبراطورية الأمريكية» المتداعية، وكان لهذا العام نصيبٌ في جملة من العناوين لا بد لنا أن نقف عندها بقصد تفنيديها.
العلاقات الهندية-الصينية
تذهب بعض هذه المقالات المنشورة إلى التركيز على توتر العلاقات الهندية- الصينية والتي وصلت إلى ذروتها في الصدام الحدودي العنيف، الذي كاد أن يتحول إلى صدام مسلحٍ واسع. يعتبر العديد من المحللين– من ضمنهم عدد من الأساتذة والسياسيين الهنود- أن لا مستقبل لتحالف يضم الهند والصين جنباً إلى جنب، ويستندون في ذلك إلى جملة من الأفكار أبرزها: هو «تناقض المصالح الشديد» بين البلدين، وظل الصين الثقيل في آسيا، الذي يحرم الهند من لعب دورٍ محوري في هذه المنطقة، مما يسبب- بحسب هؤلاء المحللين- حالة من الصراع الدائم، التي وإن لم تتحول إلى صراع مسلح، لكنها لن تسمح بتمتين العلاقة لتصل إلى شراكة إستراتيجية. أما البعض الآخر، فيرى أن الهند إنما تقرأ التوازنات الدولية وتلعب لذلك بين معسكرين، فهي تضمن بهذه المناورة مصالحها، لكنها في الوقت نفسه لن تستطيع بناء علاقة إستراتيجية مع الولايات المتحدة من جهة، أو مع روسيا والصين من الجهة الأخرى.
لكن، وإن كنا لا ندعي المعرفة المطلقة بالإستراتيجية والفلسفة التي تقوم عليها السياسيات الخارجية الهندية، يكفي أن نعرف أن لهذه السياسة هدف يجب أن تصله في نهاية المطاف، وهو تحقيق المصالح الهندية، وهذا ما يفرض علينا قراءة الواقع بشكل مختلف. فالهند لا شك ترى في الصين خصماً ومنافساً، ولا ضير أن تحاول الهند عبر مناورات إستراتيجية واسعة الضغط على الصين بهدف تحسين موقعها، لكن الهند كغيرها من البلدان آسيا تجد نفسها أمام تحالف واعد عبر شكلٍ من أشكال العلاقات الاقتصادية والسياسية المتكاملة، القائمة على الاحترام والمنفعة المتبادلة. فحتى وإن كانت الهند ترى أن التوازن الدولي في لحظة ما فرض عليها المناورة بين المعسكرين، فهي تدرك اليوم كغيرها من دول العالم، أن الولايات المتحدة تتراجع بشكل مضطرد، ولن تكون قوة حاضرة في آسيا، وأن لوجودها هذا تاريخ صلاحية يشارف على الانتهاء، وتدرك أيضاً، أنها مشمولة بمشاريع اقتصادية وسياسية واعدة تجمعها مع الصين وروسيا، لا شك أن هناك قوىً ما، لا تزال موجودة داخل الهند، تغيب عنها هذه الحقيقة، لكنها أضعف من أن تعيق التوجه العام للهند، الذي لم يعد بالإمكان التراجع عنه.
المشاكل التي تواجه العلاقات الهندية الصينية هي مشاكل حقيقة، ولا يمكن القفز فوقها، وهذا ما يدركه البلدان، لذلك تنصب الجهود لتخفيف التوتر القائم، فرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اجتمع بشكل افتراضي مع الرئيس الصيني شي جي بينغ بعد قمة بريكس لنقاش الخلاف الحدودي بينهما وآفاق تسويته، ليكون هذا اللقاء الثاني الذي يجمع البلدين خلال أقل من أسبوع، بعد حضور الطرفين لقمة منظمة شنغهاي للتعاون.
الهيمنة الصينية
النفوذ والوزن الاقتصادي المتزايد للصين بات يشكّل مادة دسمة «لكشف نوايا الصين الخبيثة» في المنطقة، بل يذهب أحد الحذقين للقول ودون مواربة: إن الصين تسعى إلى الحد من النفوذ الأمريكي في آسيا، وتعبئة الفراغ الحاصل، كما لو أنه يكشف سراً عظيماً! فالصين كغيرها من دول آسيا والعالم عانت من العلاقات الدولية التي قامت على استغلال الدول المتقدمة للدول النامية والفقيرة إلى أن بدأت هذه الدول بكسر هذه الحلقة، وما يغيب عن هؤلاء المحللين، أن الصين لم تنجح منفردة بل كانت روسيا والهند وإيران قد حققوا نجاحات متفاوتة في هذا الخصوص، مما جعل قيام العالم المتعدد الأقطاب الذي نعيش بدايته ضرورة موضوعية لا تقوم على الصين فحسب، بل تقوم على كل هذه الدول مجتمعة، التي تدرك جميعها: أن تعاونها واحترام اختلافاتها سيمكّنها من عبور هذا الدرب الوعر. والصين تملك وزناً اقتصادياً كبيراً جداً، لكنه يعد معادلاً طبيعياً وموضوعياً لحجمها الجغرافي والبشري! وإن للصين وزناً لا يقوم على الترهيب، بل على كونها شريكاً اقتصادياً قادراً على المساهمة الفاعلة والحقيقية في التنمية، وكل أشكال التعاون، لا عبر سحب ثروات المنطقة المجاورة، بل عبّر تمكينها وإشراكها بشكل حقيقي في مشاريع مستقبلية فاعلة.
دول بريكس جاءت تعبيراً عن تغييرات سياسية واقتصادية لم تكن موجودة سابقاً. كانت ببساطة ثمرة لتوازنات دولية جديدة سبقتها مقدمات طويلة، أي: إن مجموعة بريكس كانت نتيجة لواقع موضوعي قائم، وهذا الواقع قادرٌ على خلق أشكال مختلفة ولا منتهية للتعبير عنه وعن الشعوب المنضوية في قلبه.
لتحميل العدد 993 بصيغة PDF
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 993