أوروبا: ضباب كثيف يحجب صورةً مختلفة!
أعلنت تركيا أنها بدأت بإجراء اختبارات ميدانية على منظومة الدفاع الروسية إس-400 وعلى الرغم من الضغوط الأمريكية والغربية التي لم تتوقف حتى اللحظة، إلّا أن أنقرة متمسكة بقرارها هذا، ولتقترب المنظومة الدفاعية المتطورة مع هذا الإعلان من دخولها الرسمي في الخدمة، مع ما قد يحمله هذا الأمر من تداعيات على مجموعة واسعة من الملفات.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الجمعة 23 من الشهر الجاري: أن بلاده قامت بالفعل بإجراء اختبارات لمنظومة الدفاع الروسية إس-400، وجاء الرد على التصريح التركي هذا على لسان جوناثان هوفمان المتحدث الرسمي باسم البنتاغون، فقال هوفمان: إن واشنطن ترى في وجود المنظومة الروسية في الجيش التركي «إخلالاً في الالتزامات التي تعهدت بها تركيا بصفتها حليفاً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي». موكداً معارضة بلاده لهذه الصفقة، ومذكراً بأنه ستكون لذلك «عواقب وخيمة» على أنقرة، التي وحسب تصريحات الرئيس التركي أكد: أن موقف واشنطن هذا «لا يهمنا، ولن نستأذنها بهذا الخصوص».
بالإضافة إلى عزم واشنطن فرض عقوبات على تركيا تتصاعد بعض الأصوات المحافظة في واشنطن لتطرد تركيا من الناتو وسحب الصواريخ النووية الأمريكية الموجودة في القاعدة الأمريكية على الأراضي التركية
التداعيات على تركيا
رغم أن الحديث عن تداعيات استخدام تركيا لمنظومة الدفاع الروسية دائم التكرار، إلّا أن حصر التداعيات المفترضة أمرٌ صعب ويمكننا القول: إن لهذه التداعيات حداً أدنى يكون باستمرار التوتر لفترة من الزمن، إلى أن ترضخ واشنطن وحلف الناتو إلى طبيعة تركيا «الهجينة» هذه، فتبقى تركيا جزءاً من هذا التحالف وعماد قواته البرية ومنصة إطلاق لصواريخه، وتحتفظ تركيا بشراكتها مع روسيا «خصم الناتو المفترض» وتبقي منظومة الصواريخ المتطورة ضمن نقاطها الدفاعية. وإذا ما نظرنا إلى التداعيات القصوى لهذه الصفقة، ستكون بلا شك إعادة النظر بوجود تركيا ضمن حلف الناتو أصلاً، وما يحمله هذا من ضرورة رسم خطوطٍ جديدة للصراع في المنطقة.
تمسّك واشنطن وأنقرة بقراراتهما ورفضهما التراجع، يعني دفع الأمور باتجاه أكثر السيناريوهات تعقيداً، فالولايات المتحدة اعتمدت قانوناً في 2017 بعد إقراره من قبل البنتاغون، يسمح باتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية بمجرد أن تبرم دولة ما «صفقة مهمة» مع قطاع التسلح الروسي، وكان القانون الأمريكي هو الرد المباشر، تلا الإعلان عن عزم تركيا شراء منظومة S-400 من روسيا. وبالإضافة إلى عزم واشنطن فرض عقوبات على تركيا، تتصاعد بعض الأصوات المحافظة في واشنطن لتطرد تركيا من الناتو، وسحب الصواريخ النووية الأمريكية الموجودة في القاعدة الأمريكية على الأراضي التركية.
«الأصوات الأمريكية» لا ترفض أنقرة فحسب!
نشر السياسي الأمريكي دوغ باندو- والذي عمل كمستشارٍ خاص للرئيس الأمريكي رونالد ريغان، ويُعد أحد الأعضاء البارزين في «معهد كاتو»، مركز الأبحاث الأمريكي المعروف- مجموعة من المقالات على مدار سنوات في عدد من الدوريات الأمريكية المعروفة، مثل: «ذي امريكان كونسيرفاتيف» و«فوربس» وغيرها، ويدعو باندو في مقالاته هذه إلى طرد تركيا من الناتو، وتتوسع مضامين هذه المقالات التي باتت تعبّر عن توجه جزء مهم من القوى الأمريكية لا لتهاجم تركيا فحسب، بل لتتحول إلى منصة للهجوم على حلف الناتو مجتمعاً، ونقاش جدوى استمراره أصلاً.
يفتتح باندو إحدى مقالاته بهجوم على حلف الناتو، فقد اعتبر أن قيام هذا التحالف كان مفارقة تاريخية، وكان انضمام تركيا للتحالف مفارقة أكبر! واعتبر السياسي الأمريكي أن «التحالف العسكري هذا كان يجب أن ينتهي مع تعافي الأوروبيين من نتائج الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي».
ويجري باندو مراجعة لسياسة الولايات المتحدة اتجاه تركيا، ليثبت أن هذه الأخيرة حليفٌ غير موثوق، ويدّعي أن أردوغان حاول جرّ الولايات المتحدة إلى الصراع في مواجهة النظام السوري، في الوقت الذي كانت تركيا تتعاون فيه مع داعش. في محاولة مضحكة لتصوير الولايات المتحدة كمغلوبٍ على أمره، عاجز غير مدرك لما يجري، متجاهلاً: أن واشنطن دفعت تركيا مع مجموعة من الدول الأخرى لساحات المواجهة في سورية، وكانت الولايات المتحدة المحرك الأساس للمنظمات الإرهابية في المنطقة، وكان السلوك التركي ينسجم تماماً مع التوجه الأمريكي بتسهيل مهمة المنظمات الإرهابية، وتعقيد الأوضاع الميدانية في سورية، ولا يمكن النظر إلى الدور التركي الأسود هذا بوصفه توجهاً مستقلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية «حليفه السابق»!
يصل دوغ باندو قبل نطقه باستنتاجاته النهائية للقول: بأن التهديد الأمني الخطير المحتمل لأوروبا هو روسيا، وفي هذه الحالة لا يمكن الوثوق بتركيا بأن تقف إلى جانب الناتو إذا ما اندلع هذا الصراع، فيرى باندو أن علاقات تركيا الجديدة مع روسيا «ستثنيها عن تحدي موسكو في أية ساحة من ساحات الصراع». وأضاف أنه «مثلما قرر أردوغان أنه لا يستطيع الوثوق بضباط بلاده المتمركزين في الناتو بعد محاولة الانقلاب، فلن يكون من الوارد أن يستطيع الناتو الوثوق بالموظفين الأتراك الذين قد يكونون من عشاق روسيا الجدد»
ومن هنا يصل باندو للقول، بأن حلف الناتو قد خسر تركيا، وأنه وبعد اختيار تركيا بالممارسة قرارها بمغادرة الحلف، فيجب على الولايات المتحدة وأعضاء الناتو الآخرين التصديق على هذا القرار وحسب، وقبول الأمر الواقع. وأنه يجب على واشنطن أن تحسم الأمر وتنهي النقاش حول طبيعة العلاقة مع تركيا، فهذه الأخيرة بنسبة لباندو وفريقه برهنت في سلوكها أنها ليست حليفاً وليست صديقاً، وأنها باتت تشكل تهديداً للأمن الأمريكي والأوروبي. بل يورد السياسي الأمريكي إحصاءات تدلل على أن المواطنين الأتراك يُكنون مشاعر سلبية اتجاه الولايات المتحدة، حسب إحصاءٍ أجري في 2017، والذي وصل إلى استنتاج أن 72% من الأتراك يرون في الولايات المتحدة تهديداً كبيراً، وهذه كانت النسبة الأعلى بين 30 دولة شملها الاستطلاع الذي استشهد به باندو.
على الرغم من أن باندو وآخرين يصبون «جام غضبهم» على تركيا، إلّا أن موقفهم من تحالف الناتو لا يختلف كثيراً، بل نجد بين كلمات باندو هجوماً وسخرية من الناتو على طول الخط، كأن يسخر من وجود دولٍ، مثل: الجبل الأسود ضمن هذا التحالف، وهي التي لا تملك أكثر من 2080 مقاتلاً ،وهو أقل من عدد الضباط الذين اعتقلتهم تركيا عقب محاولة الانقلاب!
من يقاتل من؟ وبأية أسلحة؟
لا يمكن النظر إلى الخلاف التركي اليوناني من كونه مجرّد مؤشر على الشقاق داخل حلف الناتو! فاليونان وتركيا تتمتعان بعلاقات وثيقة مع روسيا إلى درجة أن هذه الأخيرة تلعب دوراً في خفض التوتر بين البلدين، وقد ذكّر الرئيس التركي منذ أيام: أن اليونان تملك أيضاً منظومة الدفاع الروسية إس-300 المطوّرة، وهذا ما يجعل إمكانية فهم ساحة الصراع عملية صعبة، فتركيا لا تزال حتى اللحظة عالقةً بين فريقين، ولا يمكن لأيّ منهما النظر إليها كحليف مستقر، ومن ناحية أخرى ينبغي رؤية أن روسيا استطاعت بناء علاقات حتى مع الدول الموجودة ضمن حلف الناتو أخرى، الذي يفترض أن يرى في روسيا «أكبر تهديد لأمن أوروبا»، واحتمال أن يتزود بالسلاح الروسي احتمالٌ قائم وهذا ما يفسر السلوك الأمريكي، فالتشريع الأمريكي الذي يسمح بفرض عقوبات على دول حلف الناتو التي تشتري سلاحاً روسياً لا يخص تركيا وحدها– وإن كانت الدعاية الأمريكية تحاول حصر المشكلة في أنقرة وحدها– بل المشكلة أكبر من ذلك بكثير، فالولايات المتحدة تسعى إلى منع دول هذا الحلف من الانتقال إلى الحلف المعادي! فهناك اليوم 4 دول ضمن حلف الناتو تملك منظومات سلاح روسية، وهي بلغاريا وسلوفاكيا، بالإضافة إلى اليونان وتركيا التي كانت آخر المنضمين إلى سوق السلاح الروسي، ويبدو أن هذا التوجه سيستمر ويتعمق في الفترة القادمة. وسيحمل معه نتائج سياسية غير متوقعة، فانهيار الاتحاد السوفييتي مكّن حلف الناتو من استمالة بعض دوله السابقة، التي تشّكل بالنسبة لروسيا الاتحادية اليوم جزءاً من محيطها الحيوي، ولن يكون من الصعب على روسيا إيجاد قواسم ومصالح مشتركة بينها وبين هذه الدول، بالإضافة إلى قدرتها العالية على بناء شراكات حتى بعيداً عن حدودها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 989