التسوية الليبية تمضي رغم التخوفات والتشويهات المتعمدة

التسوية الليبية تمضي رغم التخوفات والتشويهات المتعمدة

هدأت الحرب وعَلا صوت الحوار، هذا ما يجري في ليبيا منذ نحو شهرين، وصولاً إلى توافقات وتقاطعات هامة بين طرفي النزاع على طريق التسوية الشاملة للأزمة الليبية، لكن وعلى الرغم من حالة التفاؤل التي تحيط بالعمليات السياسية الجارية، إلا أن العديد من المتابعين يعتبرون ما يجري لا يزال ضعيفاً أو هشاً، بالاستناد إلى تاريخ الأزمة الليبية من جهة، وتأثراً بتصريحات عددٍ من الرؤساء والسياسيين من جهة أخرى.

صحيح أنه من المبكر جداً الحديث عن «تسوية شاملة» بعد، رغم كل المؤشرات الشكلية الإيجابية التي تظهر من طرفي الصراع الليبي ورعاة مؤتمرات الحوار التي تجمعهم سواء في مصر أو تونس أو جنيف، إلا أن هذا الأمر لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال عدم رؤية التطورات بأهميتها أو التبخيس منها، فهي وإن افترضنا أنها «إعلانات سياسية» بما يقصد بها بوصفها أقوالٌ لا أفعال، إلا أنها تضع جميع الأطراف أمام استحقاقات عملية وفعلية بهذا الاتجاه، حيث كل اتفاق وورقة موقعة تكون مُلزمة بالنسبة للطرفين ويترتب على نقضها، أمام الأطراف الأخرى، داخلاً وخارجاً، عدة نقاط تسقط من رصيدها ووزنها السياسي.

مؤتمر القاهرة

نرصد السلسلة الأخيرة من المباحثات بدءاً من الحوار الذي أمنته القاهرة في 11 من الشهر الجاري، ولمدة ثلاثة أيام، حيث زارها وفدان من مجلس النواب الليبي «شرقاً» والمجلس الأعلى للدولة «غرباً» لبحث القضايا الدستورية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تمخض عنه اتفاقٌ على «ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية والبدء في ترتيبات المرحلة الدائمة» و«عقد جولة ثانية... لاستكمال المناقشات» وفقاً للبيان المشترك الصادر عن الطرفين الليبيين في 13 تشرين الأول، وفي اليوم نفسه صدر تصريح من وزير داخلية حكومة الوفاق الليبي، فتحي باشاغا، معتبراً فيه: أن ليبيا جاهزة الآن لإعلان اتفاق سياسي يجمع كل الليبيين، مؤكداً أن نتائج ومخرجات اللقاءات الخارجية بين الفرقاء خير دليل على ذلك، كما أعلن الناطق باسم قوات «الجيش الوطني الليبي»، اللواء أحمد المسماري: أن الجيش الليبي ملتزم بإعلان وقف إطلاق النار المعلن مؤخراً، من أجل إنجاح العملية السياسية في البلاد، لينعكس هذا التطور بالترحيب الكبير من قبل الشارع الليبي بهذا الاتفاق، وسط مطالب بضرورة إسراع تنفيذه وحل الأزمات المعيشية والصحية، وأبدت الأمم المتحدة «إثنائها» على هذا الاتفاق.

اتفاق تاريخي جمع بين حكومة الوفاق الليبية والجيش الوطني بشأن وقف إطلاق نار دائم في عموم البلاد

لجنة 5+5 ومباحثات المغرب

في 19 من الشهر الجاري، أعلنت الأمم المتحدة انطلاق الجولة الرابعة من محادثات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) التي تمثل طرفي النزاع في ليبيا، بحضور الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالإنابة ستيفاني وليامز، وللتذكير: يتعين على هذه اللجنة التي انبثقت عن قمة دولية عُقدت في كانون الثاني 2020 في برلين، تحديد شروط وقف إطلاق نار مستدام، مع الانسحاب من مواقع عسكرية.

لتعلن ستيفاني ويليامز بعد يومين عن جملة اتفاقات جديدة تم التوصل إليها بين الوفدين العسكريين، تشمل إعادة فتح الطرق البرية وخطوط الرحلات الجوية الداخلية وتسهيل التواصل بين المناطق، والتأكيد على «مواصلة حالة التهدئة الحالية على جبهات القتال وتجنب أيّ تصعيد عسكري».

الأمر الذي يتيح عملياً إعادة الربط والتواصل بين مختلف المناطق الليبية بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي، ليشكل هذا الأمر، بحال استمراره، خطوة كبيرة وأساسية بتمتين وحدة البلاد.

وفي اليوم نفسه، أعلن نائب رئيس حكومة الوفاق الليبية، أحمد معيتق، عن تعاون الحكومة مع «الجيش الوطني الليبي» لوضع ميزانية موحدة للبلاد قريباً، بما يخدم الهدف نفسه من إعادة وصل البلاد وتوحيدها اقتصادياً واجتماعياً، وهذا بدوره يشكل أساساً للوحدة السياسية التي يجري العمل عليها.

وفي اليوم نفس أيضاً، جرت بين وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، مباحثات مع رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، حيث أعرب خلالها الأخير عن تفاؤله بما تحققه الأطراف الليبية من توافقات، مؤكداً: أن الأطراف «ستبحث كيفية تجسيدها على أرض الواقع»، ومشيراً إلى أن تحقيق ذلك سينهي حالة انقسام المؤسسات، ويسهم في إعادة التوازن الاقتصادي والمالي للدولة الليبية.

وصولاً إلى اليوم الأخير من اجتماع (5+5) حيث أعلن عن اتفاق تاريخي جمع بين حكومة الوفاق الليبية، والجيش الوطني بشأن وقف إطلاق نار دائم في عموم البلاد، ويتضمن الاتفاق عدداً من البنود الأخرى لا تقل أهميةً نذكر منها: - انسحاب كافة المرتزقة والقوات الأجنبية من البلاد في موعد أقصاه ثلاثة أشهر. - وقف عمليات التدريب العسكري في عموم الأراضي الليبية ومغادرة فرق التدريب البلاد إلى حين تولي الحكومة الجديدة مهامها. - دمج المجموعات المسلحة في مؤسسات الدولة وتشكيل قوة عسكرية نظامية ترفع تقاريرها إلى اللجنة المشتركة.

هروب إلى الأمام أم خطوات حقيقية؟

يعتبر البعض أن هذه الخطوات الأخيرة المتسارعة فيما يخص الأزمة الليبية تمثل محاولة هروب للأمام من قبل طرفي الأزمة عبر توافقهم بهذا الشكل لا بغية حلّ الأزمة فعلياً على المستوى الوطني والاجتماعي، وإنما تخادماً متبادلاً بغية الالتفاف على المخرجات السياسية السابقة، سواء في مؤتمر برلين أو القرار الدولي 2510 اللذين يفيدان في مضمونهما ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية تدير البلاد في مرحلة انتقالية بالتوازي مع التعديل الدستوري، وصولاً إلى قيام انتخابات برلمانية ورئاسية تشميل «جميع» القوى السياسية الليبية.

لكن على أيّة حال، وعلى الرغم من هذه التخوفات المشروعة والموضوعية، إلا أنّ مسألة النوايا هنا- خاصة أمام المستجدات الجارية وما سينتج عنها، بالتوازي مع الظرف الإقليمي والدولي الذي يدفع باتجاه التسوية- غير مهمة، حيث إن خطوات إعادة ربط المناطق الليبية حيوياً: اقتصادياً واجتماعياً، ودمج الفصائل العسكرية بجيشٍ ليبي واحد، والتوصل إلى قيادة سياسية مشتركة، وإن كانت بشكلٍ يبدو التفافاً الآن، إلا أنه يشكل الأرضية لإعادة بناء الدولة الليبية، وإنهاء الأزمة المسلحة، واستعادة السيادة الليبية بعد خروج القوات الأجنبية سواء المعلن أو غير المعلن عنها، وهذا بدوره سيؤمن عودة الحياة السياسية إلى البلاد، لتبرز أو تنشأ في حينه القوى الشعبية والسياسية التي تحمل مشروع التغيير وتدفع به.

معلومات إضافية

العدد رقم:
989