ما الفرق بين ترامب وبايدن؟
يتزايد الحديث عن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني، بالمنافسة الجارية بين دونالد ترامب وجو بايدن، ليطفو سؤال: «من يحدد من؟» الإدارة تحدد تطور البلاد، أم أن تطور البلاد هي من تحدد عمل إدارتها؟
إثر التراجع الأمريكي المتتالي في السنوات الماضية على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، يعاني العديد من «صدمة بالوعي» لم يجدوا لها مهرباً أو مخرجاً سوى بتحميل الأمر إلى إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، ويعوّلون الآن على جو بايدن من الحزب الديمقراطي- وموضوع الحزبين هذا أمرٌ آخر- باعتبار أنه سيصلح ما «أفسده ترامب» ويعيد إنتاج ما «حققته إدارة أوباما» ويكمل من هناك.
من يحدد من؟
أولاً: حين يجري الحديث عن «النخبة الحاكمة» في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذا المصطلح لا يتعلق بهذا التيار السياسي أو ذاك، ولا يتعلق بالحزب الجمهوري أم بالديمقراطي أم بأشباه اليسار، أو حتى مجموعهم، بل إنه تحديداً، نُخب رأس المال التي تقف خلف هؤلاء مجتمعين، نُخب الصناعة والتجارة والاستثمار ورأس المال المالي، وتداخلهم فيما بينهم، وما يحدد اتجاهات مصالح هذه النخب، إنما هي الظروف والضرورات الموضوعية نفسها، وتصبح الخطى العملية منها ناتجة عن مُحصلة أوزان قوى رأس المال هذه، وفي ظل الأزمة الرأسمالية العالمية، وتحديداً بعد الأزمة المالية عام 2008، بدأت تخرج إشارات الانقسام والخلاف بين هذه النخب، ضمن خطين رئيسين: أولوية تنمية وتعزيز الاقتصاد داخلياً، أو الاستمرار بالنهج السابق بالنهب المالي خارجياً ورفع مستواه.
ثانياً: ما يولد حالة الانقسام في النخبة الأمريكية، ويفرض حالة «التراجع والانكفاء»، إنما هي الأزمة نفسها أولاً، وضمن هذا المُعطى ليس لدى الأمريكيين إلا خياران: التنفيس عن الأزمة كما العادة عبر الحروب، وافتعال الأزمات خارجياً بشكل أساس، أو الإقرار بعدم القدرة على استمرار الخيار الأول، وبالتالي، العمل بعقلية «الخروج بأقل الخسائر الممكنة»، وهو ما تم العمل فيه ليس بدءاً من إدارة ترامب، بل من إدارة أوباما نفسها، وما الفيتو الروسي- الصيني الأول حول سورية الذي أوقف ومنع التدخل العسكري الأمريكي المباشر إلا دليلٌ على عدم القدرة الأمريكية على أن تفرض رغباتها. ومع استمرار الأزمة بالتفاعل وازدياد حدتها ستزداد حدة الخلافات داخل النخبة الأمريكية، وستزداد على إثرها حالة التراجع بصرف النظر عن الرئاسة والإدارة «الشكل» الذي سيحكم البلاد.
ثالثاً: إن هذه الأزمة الأمريكية خاصة والرأسمالية عامة «لا مخرج لها» ولا حل لها، حيث وصلت إلى آخر مراحلها التاريخية، وباتت حرفياً «تأكل نفسها»، لتضعف وتتقلص وتفرز أزمتها في مراكزها نفسها: الاحتجاجات الأمريكية الأخيرة، ونسب الباطلة المرتفعة، وركود الاقتصاد الأمريكي، وقطع تعويضات المعطلين عن العمل، الأزمة الصحية، وبروز المسألة العنصرية و.. إلخ كلها تعبيرات عن عدم قدرة هذه النخبة عن تصدير أزمتها نحو الخارج كما اعتادت وسترتفع حدتها وتزيد مستقبلاً إلى أن يأتي المخرج الوحيد الممكن بالنسبة للشعب نفسه، وهو: طرد هذه النخبة وتغيير النظام الاقتصادي- الاجتماعي برمته.
الفرق بين جمهوري وديمقراطي
على هذا الأساس، فإن الغوص في مسألة الرئيس الأمريكي القادم، بين ترامب أو بايدن، كمُحدد أول للسياسات الأمريكية، إنما تشوش وتُغطي على هذه الحقائق والمعطيات وتقلبها رأساً على عقب.
لا ننفي هنا دور الإدارة الأمريكية باتخاذ إجراءات وسياسات مستقلة لها، لكنها ضمن حدود نسبية ضيقة جداً، فالحديث عن انسحاب القوات الأمريكية عالمياً، مثالاً، لا تحددها إرادة هذه الإدارة أو تلك، وإنما محصلة ميزان مصالح النخبة بانقسامها وما تفرضه الأزمة والتراجع عليها، أما قضايا مثل: «بناء جدار مع المكسيك» أو «برنامج أوباما للرعاية الصحية» بإزالته أو إعادته تكون في تلك الحدود النسبية التي لا تتعارض أو تتفق تماماً مع مصالح النخب تلك. وفي سياق الأمور الرئيسة الأعمّ، خارج هذه الحدود الضيقة، تكون قضايا مثل: الحرب التجارية مع الصين، التناقض مع أوروبا، الانسحابات من المنظمات والاتفاقيات الدولية، قمع الحركة الاحتجاجية داخلياً... إلخ.
أما وظيفة هذه الإدارات السياسية «كشكل ومظهر» بالنسبة للنخبة نفسها، تكون في الثنائية الأمريكية التقليدية من ديمقراطيين/ ليبراليين أو جمهوريين/ محافظين، بين ما يسوقوه يساراً أو يميناً، بحسب ما تتطلبه المرحلة، فيبدو أن الجمهوريين/ المحافظين الآن هم الشكل السياسي لإبراز حالة من القمع المباشر أو «الإعلان» عن انعطافات سياسية تكون مطلوبة في مرحلة ما، وشمَاعة يجري تعليق ما أمكن من المشاكل عليها، فإدارة ترامب هنا كجمهوري/ محافظ قد تكون أتمّت وظيفتها بهذا المعنى، وجرى تحميلها فكرة «مُخرّب أمريكا ومُعطّلها»، ليعود الشكل «الديمقراطي/ التقدمي» بايدن الآن كراعٍ ومُصلح يُثبّت ما تحمّلته الإدارة السابقة، ويكملها، دون أن يحمل أوزارها سياسياً، وهو ما تروج إليه البيانات الآن أن من المُرجح فوز جو بايدن، علماً أن هذه البيانات في هذه اللحظة خاضعة للبروباغندا التي يروجها الطرفان وقدرة كل منهم على تسيير الإعلام لمصلحته.
بالإضافة إلى وظيفة «الشماعة» تلك، فإن الشكل اليميني/المحافظ، القومي، هو الشكل السياسي والإيديولوجي الحامل لمسألة «أمريكا أولاً»، وهي تعني بالتحديد مسألة التراجع والتمترس في حدود الدولة الجغرافية، ومحاولة تنمية اقتصادها، وحتى التمترس أمنياً وعسكرياً بداخلها، بغية مواجهة الأزمة وتقليص الخسائر الناجمة عنها وقمع ردود الفعل الشعبية اتجاهها.
إن وظيفة تيار ترامب الشكلية بهذا المعنى لم تنته وإن غابت الآن لفترة من الزمن لصالح تيار بايدن- على فرض أنه سيخسر- فعودة هذا النموذج القمعي والمركزي الصريح يتجه ليكون( ضرورة) أكثر فأكثر مع تصاعد الأزمة من جهة، وتصاعد الاحتجاجات من جهة أخرى، بالنسبة للنخبة الأمريكية ومصالحها وحمايةً لها.
المصلحة الشعبية
بالنهاية، ففي مقابل مصالح النخبة الأمريكية وتطورها، تقف المصالح الشعبية لتعبر بحركتها ونشاطها بالاحتجاجات الجارية، وهي تتزايد أيضاً بالتوازي مع اشتداد الأزمة. وعلى هذا المستوى يتضح أكثر فأكثر بالنسبة للأمريكيين قضية الاختلاف الوهمية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وقضية وهم «الديمقراطية الأمريكية» ككل، ليظهر الخطاب المناهض للاثنين معاً، وصولاً إلى النظام الرأسمالي برمته، كما تُعبر الهتافات والشعارات في الشارع الأمريكي، وهذا بدوره سيفرز قوى سياسية حقيقية حاملة له لتقف بمواجهة مباشرة مع تلك النخبة دون أية أوهام «ديمقراطية/ جمهورية/ محافظة/ تقدمية» على الهيئة الأمريكية التقليدية، مواجهة بين يسارٌ يعبر عن المصالح الشعبية بتغيير النظام برمته، ويمين يعبر عن مصالح النخبة مهما كان «شكله» أو اسمه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 977