رحلة طويلة نحو متوسط مستقرّ..
تشكل الأحداث التي تجري في البحر المتوسط نسبة لا بأس بها من مجمل الأخبار العالمية، فهو عقدة تتشابك في مياهه مجموعة من النزاعات، وفي الوقت الذي يجري الحديث عن آفاق جديدة لحل الأزمة الليبية، نسمع تصريحات رسمية من تركيا واليونان وقبرص عن احتمالات لمفاوضات على أمل تخفيض درجة التوتر بين هذه البلدان.
يعتبر البحر الأبيض المتوسط مسرح مجموعة من النزاعات الإقليمية، ولا يرتبط هذا الدور الذي يلعبه المتوسط بملف الغاز المكتشف حديثاً فحسب، بل يرتبط بخصوصيته الإستراتيجية، ورغبة الدول المطلّة عليه بحجز وزنٍ لها ضمن مياهه، ونرى أن هذه الرغبة ليست حكراً على دول المتوسط فقط، بل نرى تزاحماً روسياً وأمريكياً أيضاً. وربما تلعب خطوط التجارة البحرية التاريخية التي تمر عبره، دوراً أساساً في هذه الصراعات. فما هي أبرز الخلافات التي تدور اليوم، وهل من آفاقٍ لحلٍ يُجنب المنطقة حرباً لا يعلم أحدٌ أين تنتهي؟!
الصراع التركي اليوناني
لا مجال للخوض في التاريخ الطويل للخلاف التركي اليوناني؛ ففي الوقت الذي يمكن القول فيه: إنه يعود إلى فترة ما بعد استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832، لا يمكننا تجاهل أن الخلاف يمتد على طول فترة السيطرة العثمانية على الجزيرة دون انقطاع، لكن ما يهمنا: أن العلاقة المتوترة بين اليونان وتركيا أنتجت أربع حروب منذ 1897 وكانت آخرها: الحرب التي امتدت لأربع سنوات منذ 1919 إلى 1922.
سمح الشكل الذي تراجعت ضمنه الإمبراطورية العثمانية، وحتى زوالها- إلى جانب التوازنات الدولية التي رافقت هذه العملية- لليونان بأن تشكل شوكة في حلق تركيا، فيتبع لليونان 6000 جزيرة تنتشر في البحر المتوسط وفرعيه بحر إيجة والبحر الأيوني، وتشكل هذه الجزر طوقاً خانقاً لتركيا؛ إذ تتمتع هذه الجزر بمياهها الإقليمية المتعارف عليها في القانون الدولي. المشكلة تكمن بأن حجم هذه الجزر صغير للغاية؛ فمن آلاف الجزر هذه لا يشغل السكان سوى 227 جزيرة، ولا يتجاوز حجم بعضها سوى بضعة كيلو مترات مربعة، وهذا ما يدفع تركيا إلى رفض معاملة هذه البقع الصغيرة من اليابسة معاملة الدول، ﻷنها تشكل سداً في وجهها لاستثمار الثروات الموجودة ضمن المتوسط، وتعد جزيرة كاستيلوريزو اليونانية مثالاً واضحاً، فمساحة هذه الجزيرة لا تتعدى 10 كم2 وتبعد عن السواحل التركية 2 كم، بينما تبعد عن البر اليوناني 580كم، لكن اليونان تطالب بأحقية الجزيرة بجرفها القاري بمساحة 40 ألف كم2!
الصراع التركي القبرصي
يتقاطع الخلاف مع قبرص بشكل كبير مع الخلاف اليوناني التركي، فالدوافع ذاتها تحرك تركيا، التي استغلت الخلاف الدائر بين المواطنين القبارصة، الذين ينقسمون بين القوميتين اليونانية والتركية، وشكلت تطورات هذا الخلاف ذريعة مناسبة لتركيا لتجتاح شمال قبرص سنة 1975ـ وتعترف أنقرة بعدها بـ (جمهورية شمال قبرص) لتكون تركيا البلد الوحيد في العالم الذي يعترف بهذه الدولة، وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة تعترف اليوم بسيادة قبرص على كامل أراضي الجزيرة، إلا أن الواقع مختلف، فالجزيرة مقسمة إلى قسمين: شمالي خاضع لتركيا بشكل غير مباشر، وهو ما يشكل ثلث مساحة الجزيرة الصغيرة أصلاً، مقابل جنوبي خاضع لسلطة العاصمة نيقوسيا.
تستفيد تركيا من هذا الوضع بأنها تستطيع توقيع اتفاقيات شكلّية مع (جمهورية الشمال) والتي تنال بموجبها تفويضاً للتنقيب وممارسة النشاطات الاقتصادية في المياه الإقليمية لهذه الدولة ذات الاعتراف المحدود جداً، مما يشكل استفزازاً لقبرص واليونان وغيرهما من الدول الأوروبية.
باقة أخرى من المشاكل
إذا كانت مشاكل تركيا واليونان وقبرص تعود إلى فترة الإمبراطورية العثمانية وما بعدها، إلا أن البحر المتوسط بات يحمل في جوفه مشكلات جديدة نسبياً، منها ما نتج عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وما شكله هذا من أزمة في التعامل مع الادعاء الصهيوني بأحقية الاستفادة من (مياهه الإقليمية)، وهذا ما ولّد سلسلة لا منتهية من المشاكل مع الدول العربية المحيطة، وجاءت الأزمة الليبية لتضيف المزيد من التوتر في المنطقة، وشكلت الامتدادات الإقليمية لأطراف النزاع الليبية باباً جديداً للصراع في المتوسط، والذي انفجر مع توقيع تركيا اتفاقاً لترسيم الحدود مع (حكومة الوفاق) الليبية، وما رافق ذلك من دعم عسكري تركي غيّر في معادلات الصراع على الأراضي الليبية، وهذا ما شكل استفزازاً لمصر، نظراً لأن هذه الاتفاقية المختلف على شرعيتها تزيد من النفوذ التركي في المتوسط، وتسمح لتركيا بمنافسة مصر على الغاز الموجود فيه، بالإضافة إلى وجودٍ عسكري على الحدود المصرية الغربية.
خطوط الفصل
بين العدو والحليف
أعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين: أن بلاده ستوقف عمليات استكشاف الطاقة في شرق المتوسط لبعض الوقت، على أمل إجراء مفاوضات مع أثينا، ومن جانبه أكد وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس: أن بلاده مستعدة للحوار مع تركيا دون ضغوط أو تهديد، وأكد المتحدث باسم الحكومة اليونانية هذا التوجه، فقال في تصريحات جديدة: إن اليونان تريد حواراً مع تركيا لترسيم الحدود البحرية على غرار اتفاق بلاده مع إيطاليا. وتتوجه أنقرة واليونان للدخول في مفاوضات مرتقبة في العاصمة التركية، وهو ما يجري بشكل متزامن مع توجّه مشابه في قبرص، حيث تلعب روسيا هناك دور الوساطة، ففي تصريحات للمتحدث الرسمي باسم الحكومة القبرصية قال: إن الرئيس نيكوس أناستاسياديس طلب من الرئيس الروسي فلادمير بوتين «أن يتدخل لدى تركيا لإقناعها بوقف جميع الأعمال غير القانونية»، وأعلن المتحدث الرسمي: أن الرئيس الروسي أعلن موافقته، و»وعد بالتدخل لدى الرئيس التركي، بهدف وقف التصعيد والدخول في حوار خلاق لحل مشكلة قبرص».
على الرغم من أن هذا التوجه لا يزال توجهاً أولياً، ولا نستطيع الجزم بنتائج هذه المفاوضات إن تمت، إلّا أننا نستطيع الانطلاق من بعض الوقائع، فالعلاقات التركية مع قبرص واليونان شهدت استقراراً نسبياً بعد انضمام الدول الثلاثة إلى حلف الناتو، فقد شكّل هذا الحلف إطاراً جامعاً لها وحَيّد الخلافات القديمة بشكلٍ مؤقت، ولكن وما إن تخلخل هذا التحالف حتى عادت الخلافات للظهور، ومن هنا شكل الدخول الروسي بصفة وسيط نقلة نوعية، فتركيا وقبرص واليونان أعضاء في تحالف عسكري، ويفترض أن تضبط علاقاتهم اتفاقات تعاون عسكري ودفاع مشترك، إلا أن الأمور على أرض الواقع كانت تذهب باتجاه تصعيد، تذكيه الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل علاقة (الحلفاء) شديدة الغرابة، بل الأغرب أن يلجأ أعضاء هذا الحلف إلى عدوهم اللدود (روسيا)، على أمل أن يحل النزاع فيما بينهم. هذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن الخطوط التي تفصل بين الأعداء والحلفاء تتغير، وهذا التغيّر ليس تغيّراً بسيطاً، وإذا ما نظرنا إلى البحر المتوسط بوصفه أحد الساحات التي ترسم بها خطوط الفصل بين الأعداء والحلفاء، نستطيع أن نفهم أكثر حجم ما يجري، ومن هنا نرى: أنّ الخلافات الظاهرة اليوم بوصفها مشاكل موضوعية قائمة منذ عقود، وبمجرد إعلانها عن نفسها بهذا الشكل، فهي تعلن أن التغيير الجاري قادر على تجاوزها ضمن أطر جديدة.
فبغض النظر عن الشكل الذي يمكن أن تجري ضمنه تسوية هذه الخلافات، إلّا أن تجاوزها عبر تجنب الصدام العسكري رغبة مشتركة لدول البحر المتوسط، مخالفين بذلك رغبة الولايات المتحدة، فالتحالفات الدولية اليوم تجري إعادة بنائها، ويُعد الموقف من الحرب أبرز خطوط الفصل، ومن هذه النقطة، يمكن فهم أن تكون روسيا والصين بموقع الحليف لا العدو بالنسبة لبعض الدول التي كانت سابقاً تشهر عداءها لهما.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 977