للحرب التجارية الدائرة ثمنٌ باهظٌ... فهل من مخرج؟

للحرب التجارية الدائرة ثمنٌ باهظٌ... فهل من مخرج؟

يزداد التوتر الأمريكي الصيني بشكل متسارع، ولا ترى أمريكا مخرجاً من هذا المأزق، لا عبر تسخين هذه الحرب، لما يحمله من مخاطر تهدد الكوكب كله، ولا في الاستمرار في هذا النهج غير مضمون النتائج أيضاً، الذي قد يجرّ إلى نتائج عكسية، لكن الوضع لن يبقى على حاله بكل تأكيد، فكيف يمكن النظر إلى السنوات القادمة؟

تتابع الولايات المتحدة فرضها لعقوبات، ويجري الحديث عن توجه جديد بمنع الهيئات الأمريكية من شراء المعدات والخدمات من أية شركة تستخدم منتجات قامت بتصنيعها شركة «هواوي» وأربع شركات صينية أخرى، وهذا يضاف إلى ما يجري على كل جبهات الخلاف الأمريكي الصيني مثل: هونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي، وتحميل الولايات المتحدة للصين المسؤولية حول انتشار فيروس كورونا المستجد، وغيرها من الملفات التي باتت معروفة للجميع، إلا أن السلطات الصينية بدأت بتصعيد الرد على مستوى الخطاب والإجراءات الجوابية، ففي مكالمة هاتفية جمعت عضو مجلس الدولة ووزير الخارجية الصيني وانغ يي، مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، أكد وانغ خلالها: أن «الولايات المتحدة، محملةً مسؤولياتها لأطراف أخرى، استغلت المرض في تشويه البلدان الأخرى، وألقت باللائمة عليها بشتى الطرق الممكنة، بل وخلقت نقاطاً ساخنة ومواجهات في العلاقات الدولية»، مضيفاً: أن واشنطن قد «فقدت كل ما لديها من عقل وأخلاق ومصداقية»، ولفت وانغ، إلى أن الولايات المتحدة أحيت مجدداً «ماكارثيتها الشائنة وعقلية الحرب الباردة لديها في سياستها تجاه الصين، وأثارت الصراعات الإيديولوجية عمداً، وتجاوزت الحد الأدنى لمراعاة القانون الدولي والأعراف الحاكمة للعلاقات الدولية».

في فلك الحرب التجارية

يبدو للوهلة الأولى، أن دول العالم تكتفي بترقب نتائج الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، إلا أن الوضع مختلف، فدول العالم تنخرط مضطرةً واحدةً تلو الأخرى في هذه الحرب، فلا أحد يملك ترف الحياد. فهذا النمط من الحروب سيجرّ الجميع آجلاً أم عاجلاً. فجوهر الحرب التجارية يقوم على فرض الرسوم الجمركية بغرض تقييد حركة التجارة بين أطراف هذه الحرب، وما يجري الآن لا يختلف من حيث الجوهر عن هذا، فالولايات المتحدة الأمريكية والصين تقومان بخطوات متبادلة، فكلُّ حزمة عقوبات أمريكية تلاقي حزمةً صينيةً في مواجهتا، وعند النظر في حجم التبادل التجاري الكبير بين البلدين، والذي وصل إلى 700 مليار دولار عام 2017 - وهو ما يشكّل أكثر من ربع الصادرات الصينية – سنعرف تأثيرات هذه الحرب على الطرفين، وإذا ما بحثنا قليلاً في طبيعة هذا التبادل التجاري، ندرك بأن ما يجري تبادله ليس بالضرورة سلعاً جاهزة للاستهلاك المباشر، فجزءٌ كبير هو مدخلات صناعية لا غنى عنها في عملية الإنتاج، بالإضافة إلى مواد أولية أخرى ومواد خام، ومن هنا تبدو النتائج الأولية للحروب التجارية واضحة، فهي تفرض على أطرافها تأمين نقص الطلب من موردين آخرين، وإن افترضنا أن دولاً أخرى قادرة على تأمين هذا الطلب، فإن هذه العملية لا تمر بالشكل السريع، ولن تكون قادرة على سد الطلب الكبير بالسرعة الضرورية لتجنب توقف عملية الإنتاج، هذا بالإضافة إلى أثر هذه الحرب المباشر على عملية الاستهلاك، فوجود البضائع في السوق هو الشرط الأساس لاستهلاكها. أي: إن عملية الإنتاج لا يمكن فصلها عن الاستهلاك، وسعي الدول - الصين مثلاً - إلى إيجاد سوق آخر لبضاعتها، سيجعل هذه الأسواق عرضة للضغط الأمريكي وهذا ما سيدفع الجميع لحسم موقفهم من هذه الحرب، وسرعان ما سيكون لهذه الحرب أثر على أرياف دولٍ نائية.

توريط الآخرين..

استطاعت الولايات المتحدة الضغط على بريطانيا التي أعلنت مؤخراً أنها لن تسمح لـ «هواوي» الصينية من دخول قطاع اتصالات الجيل الخامس في البلاد، إذ قرر مجلس الأمن القومي البريطاني، برئاسة رئيس الوزراء، بوريس جونسون، حظر اقتناء معدات الشركة الصينية اعتباراً من نهاية هذه السنة، كما أمر بسحب جميع معدات «هواوي» بحلول 2027. هذا القرار الذي رأى فيه السفير الأمريكي لدى بريطانيا وودي جونسون أنه «انتصارٌ للتجارة العادلة» يعتبر عاملاً مساعداً في توسيع رقعة الحرب التجارية لا تضييقها، وإذا أخذنا بعض العوامل الأخرى التي تجري في العالم اليوم، مثل: الآثار الاقتصادية لانتشار فايروس كوفيد-19 وما سببه من خللٍ في عملية الإنتاج والاستهلاك، سندرك أن السوق العالمية باتت مهددة، فالولايات المتحدة تدفع اليوم في عكس الاتجاه الذي لطالما دافعت عنه، فالسوق المفتوح كان مطلباً أمريكياً حتى لو اقتضت الضرورة فرضه بالسلاح، أما اليوم فترى الولايات المتحدة أن فقدانها السيطرة على هذا السوق يقتضي حرمان الآخرين منه، فسلوكها يدفع السوق العالمية إلى الانقسام لا إلى دول منفردة لاستحالة ذلك اليوم، بل إلى تجمعات أصغر حجماً متعادية فيما بينها.
أما نظرة الصين، فتختلف جذرياً عن هذا الطرح، فهي تسعى بالفعل إلى إنشاء كيانات متكاملة اقتصادياً، أو أن تكون جزءاً أو شريكاً لهذه الكيانات، فنرى عملاً نشيطاً في مبادرة الحزام والطريق الصينية، ونرى نية طيبة في تعاونٍ وثيقٍ مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، هذا بالإضافة إلى دورٍ فاعلٍ في دول البريكس، وعلاقات اقتصادية ضخمة مع دول الاتحاد الإفريقي، وليس الاتحاد الأوروبي بعيداً عن بناء علاقات جيدة مع الصين أيضاً، وإن كانت الولايات المتحدة ترى أن السوق العالمية ضمن ضعف قدرتها التنافسية يشكل خطراً يجب إيقافه، فالصين ترى أن العالم أصبح «مجتمعاً غير قابلٍ للتجزئة بشكل متزايد ويربطه مستقبل مشترك»، هذا ما قاله وزير الخارجية الصيني وانغ يي منذ أيام. فالصين ترى مشكلة في السوق العالمية المشتركة، ولكنها ترى إمكانية لتقويمها بما يخدم مصالح الجميع، وترى أن ذلك يمكن أن يمر عبر المؤسسات الدولية القائمة، سواء منظمة التجارة العالمية، أو الأمم المتحدة أو غيرهما، ففي حديث وزير الخارجية الصينية ضمن المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، قال: إن العالم يحتاج اليوم إلى أمم متحدة، لكن على أن تدافع عن التنمية المشتركة، من خلال معالجة الفجوة بين الشمال والجنوب. لكن الرغبة الصينية هذه والتي لا تتناقض مع رغبة معظم دول العالم، تحتاج في البداية إلى إيجاد نهاية للهيمنة الأمريكية، دون أن تذهب السوق العالمية ضحية لهذه الحرب، وقد تكون الآثار الكارثية للصراع الصيني الأمريكي- التي ترخي ظلالها على كل مفاصل التجارة العالمية- عاملاً ضاغطاً باتجاه المخرج الوحيد الآمن، والذي يضمن مصالح الجميع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
975
آخر تعديل على الثلاثاء, 21 تموز/يوليو 2020 20:05