«المشاجرات» الهندية- الصينية متى ستتوقف؟
تشكل بعض نقاط التوتر العالمي مخاوف كبرى، فالاشتباك الذي حصل على الحدود بين الهند والصين وعلى الرغم من أنه اشتباك بالأيدي، إلا أنه حدث يحبس الأنفاس، فالجارتان أكبر دول القارة الآسيوية ويشكل مجموع تعداد سكانهما ما يزيد على 2,8 مليار إنسان، وإن أخذنا بعين الاعتبار أن البلدين يملكان ترسانة نووية وصاروخية متطورة، يمكننا أن نتخيل القلق العالمي الذي قد تنتجه صفعه واحدة في تلك البقعة من الأرض!
تشترك الصين والهند بحدود برية تصل إلى أكثر من 4000 كم، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحدود الضخمة ما هي إلا حبل نار مشتعل، فمن جهة هناك العديد من النقاط المتنازع عليها بين البلدين، إحداها: إقليم أكساي تشين في الهيملايا، والذي كان السبب المحرض في حرب استمرت شهراً في 1962، ويضاف إلى مناطق النزاع هذه، هناك صراع نفوذ في أقاليم ودول صغيرة لا بين الصين والهند فحسب بل في كل المنطقة، مثل: إقليم كشمير المتنازع عليه، ومملكة بوتان، ونيبال، وغيرها من النقاط المتوترة في المحيط، مثل: سيرلنكا وبنغلاديش وبورما. ويمككنا القول دون الخوض بالتفاصيل ذات الطابع التاريخي الحقوقي حول أحقية أو صدق ادعاءات هذه الدولة أو تلك: إن وجود كل هذه النقاط الساخنة في هذا الجزء من العالم لم يكن صدفةً. فنقاط التوتر هذه ما هي إلا خارطة ألغام تركها المستعمرون، الذين لم يمنعهم خروجهم الاضطراري من ترك صواعق قادرة على تفجير مستعمراتها القديمة. والنظر إلى المشاكل التي جرت في الفترة الأخيرة في كل المنطقة لا على الحدود الهندية الصينية فقط، يجعل الموضوع أكبر من مجرد مصادفات.
«عراك» وتصعيد حدودي
تناقلت وسائل الإعلام يوم الإثنين 15 حزيران الجاري، خبراً عن صدام عنيف بين عناصر من الجيشين الصيني والهندي في منطقة غالوان التابعة لولاية لاداخ في جبال الهيملايا، حيث اشتبك 300 جندي صيني مع 50 جندي هندي، ونظراً لحساسية الظرف والاتفاقيات التي تقضي بمنع استخدام الأسلحة النارية، كان الاشتباك أقرب لمشاجرة استخدمت فيها أسلحة بدائية «قضبان خشبية وحديدية»، إلا أن هذه المعركة خلفت أكثر من عشرين قتيل وأكثر من 70 مصاب.
تختلف الرواية الصينية عن الرواية الهندية حول طبيعة الخلاف ومن الذي يتحمل مسؤولية ما جرى، فالمتحدث باسم الخارجية الصينية ليجيان تشاو قال: إن «قوات هندية عبرت الحدود إلى الأراضي الصينية، وقامت بالهجوم، مما أدى إلى حدوث مواجهات جسدية عنيفة»، أما وزارة الخارجية الهندية فقد أعلنت: أن السبب وراء الاشتباك هو شروع الجانب الصيني في بناء منشأة في وادي غلوان على الجانب الهندي من خط المراقبة. وعلى الرغم من أنّ الأوضاع تسودها درجة من التوتر حتى اللحظة، إلا أن الخارجية الصينية أصدرت بعد أيام من الاشتباك بياناً أعلنت فيه أنها توصلت إلى اتفاقٍ مع الهند على خفض التصعيد العسكري القائم عند الحدود بينهما، وأضافت الخارجية في بيانها الصادر في 17 حزيران: أن الاتفاق ينص على حل الخلاف بطريقة نزيهة، وضرورة أن تقوم نيودلهي بـ «محاسبة المسؤولين عن الحادث بشكل قاسٍ والسيطرة على قواتها المنتشرة على الخطوط الأمامية».
لماذا لم تنفجر؟!
التفاصيل الكثيرة حول النزاعات التي جرت بين البلدين يجب ألاّ تمنعنا من طرح بعض الأسئلة، ربما أولها: لماذا لم تندلع حرب كبيرة حتى اللحظة؟ فالحروب تندلع لذرائع أقل شأناً مما ذكر، لكن يتثبت اليوم أن العلاقة الصينية الهندية أكثر تركيباً مما تبدو، وأعقد من فهم الأطراف التي تسعى إلى توتير الأوضاع لعقود بين الجارين الغاضبين، فالخطر الحقيقي بالنسبة للذين يستثمرون في الحروب لا في اشتباك الهند والصين بل العكس، فالاشتباك الأخير جرى أثناء مفاوضات جادة بين البلدين لحل الخلافات القديمة، أي أن الأجواء التي تهيمن هي أقرب إلى التوافقات من الحرب، هذا لا يعني التقليل من خطورة ما جرى ومن تطور الأوضاع، فعدد المتغيرات كبير جداً وعدد الأطراف المؤثرة كبيرة أيضاً، مما يجعل استبعاد سيناريو التصادم خياراً خاطئاً فهو احتمال قائم، لكن المهم، أن كلا البلدين يدركان أن فاتورة هذا الصدام مكلفة جداً، حتى وإن كانت الصين أضخم بالمعنى العسكري والاقتصادي، لكن هذا لا يعني أن الهند لن تكون قادرة على إلحاق ضرر جسيم في الجسد الصيني، هذا إذا لم نناقش إمكانية استخدام السلاح النووي الموجود عند البلدين. هذا الخطر لا يبدو غائباً عن أحد من الأطراف، ويبدو أن هناك إرادة حقيقية لاستبعاد سيناريو الصدام المسلح، لكن استبعاد هذا السيناريو يحتاج إلى أكثر من النية الطيبة والإرادة، فهو يتطلب قبل كل شيء إيجاد جذر المشكلة، وبذل جهد لحل العقدة الأساسية.
اتحاد كتلة بشرية– اقتصادية
تعداد السكان الهائل في البلدين مع التنوع القومي الديني والتنوع الاقتصادي- الجغرافي هو المشكلة، ولا نقصد بالطبع أنه السبب بالخلاف، بل هو مصدر خطر للقوى العالمية التقليدية، فأي تقارب هندي صيني قادر على تغيير ملامح العالم الذي نعرفه، وهذا ما دفع قوى الاستعمار القديم والجديد إلى حفر خنادق بين البلدين، وفي الوقت الذي جرت فيه– بنية طيبة– محاولة لإيجاد قواسم مشتركة تسمح ببناء مصالحة دائمة بين الجارين، إلا أنها لم تكلل بنجاح، أما اليوم فبدأت مصالح البلدين تتكامل أكثر، حتى وإن كانت تظهر بوصفها في أعلى درجات التصادم، إلا أنها بالواقع كتلة في قلب آسيا قادرة ضمن محيطها الحيوي «أي مع كل الدول والأقاليم المحيطة والتي تقسم بين الهند والصين اليوم» أن تشكل إقليماً اقتصادياً متكاملاً، لا بما يخدم مصالح الصين، فحسب بل بما يخدم مصالح الجميع، فالهند كانت تشكل بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمركية مصدر تهديد مفهوم، لكن الواقع اختلف، وعملية التحول داخل الهند جارية حتى وإن أخذت بعض الوقت، لكن الظروف المحيطة تؤمن مناخاً مساعداً، فوجود الهند والصين ضمن «بريكس» يلعب دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر، وفي إدراك كل طرف مصالح الطرف الآخر والتعايش معها، بل ومحاولة استثمار هذه المصالح المشتركة، وهذا مع الزمن سيشكل صمام أمان قادر على انتزاع صواعق التفجير، ومن هنا نرى أيضاً تأثيراً للعلاقات الروسية الهندية التي باتت تظهر ملامح لعلاقات استراتيجية لن يكون من الصحيح المساس أو إلحاق الضرر بها، وخصوصاً أن روسيا تُعد أحد المتضررين من أي نزاع بين البلدين، وهذا ما يسمح بفهم دورها، إذ تحاول دائماً لعب دور الوساطة لا عن طريق المصافحات والصور الفارغة، بل عن طريق إيجاد علاقات استراتيجية تمنع الحرب، ويمكن قراءة الموقف الروسي بوضوح في التصريحات التي أعقبت التصعيد الأخير، فقد قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا في مؤتمر صحفي: إن موسكو تأمل «أن تتمكن الدولتان، باعتبارهما عضوين مسؤولين في المجتمع الدولي، من إيجاد سبل مقبولة لكلا الطرفين لتسوية التوتر الحالي بأسرع وقت ممكن»، لتعلن بعدها: أن البلدان الثلاثة على موعد في 23 من الشهر الجاري مع اجتماع على مستوى وزراء الخارجية في إطار مجموعة عمل «ريك»، لا لنقاش المشاجرات الحدودية الخطيرة، بل «لمناقشة التوجهات الحالية في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية والقطاع المالي في ظل جائحة فيروس كورونا»
التنافس الصيني الهندي يمكن تخفيف آثاره المقلقة عن طريق صهر البلدين مع محيطهما المتوتر بإطار اقتصادي– سياسي جامع، يشكّل إطاراً ضامناً ورادعاً للاعتداءات التي قد تحصل، ويضمن في الوقت نفسه حقوق الجميع غير المتناقضة في جوهرها، ونأمل إلى حينه ألا تتحول المشاجرات الدامية إلى حروب لن تنتهي قبل تفتيت هذه الدول جميعاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 971