سياتل وبولتون... قصص قصيرة ذات مغزى..
تكثر المقالات المنشورة التي تحاول شرح ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية، ويندفع كتاب هذه المقالات لوضع السيناريوهات المفترضة للمستقبل القريب، لا شك أن الأحداث التي تجري لم تكن في الحسبان، ويتحدث بعض الكتاب عن سيناريوهات تبدو بمثابة قصص غير مفهومة للبعض، لكن العبرة الحقيقية تكمن بأن الجميع متفق على أن تغيراً كبيراً يجري.
تندرج المقالات التي تٌكتب تحت تقسيمات واضحة، منها ما يرى في الانتخابات الأمريكية السبب الوحيد وراء كل ما يجري، والملفت أن هذا الرأي ليس جديداً فيرى أصحابه أنه يمكن رد كل ما يحصل في أمريكا إلى منافسة انتخابية، لتنتهي مظاهراها مع إعلان نتائجها فيصافح الفائزون المهزومين ويعود الوئام حتى اقتراب الانتخابات التالية، أما المزاج الآخر السائد اليوم يتمحور حول اعتبار الأزمة الحالية الاقتصادية والسياسية والصحية أزمة عابرة ستنجح الولايات المتحدة «العظيمة» بالخروج منها سالمة.
حمل الأسبوع الماضي حدثين يمكن استخلاص عبرٌ مهمة منهما، أو يمكن اعتبارهما أمثلة واضحة على طبيعة الصراع والمآلات التي يمكن أن يصل لها.
كتاب بولتون
كان جون بولتون المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وظل في منصبه منذ نيسان 2018 إلى أيلول 2019، وغادر بعدها بسبب خلافات كبيرة مع ترامب، وأعلن بولتون منذ مدة نيته نشر كتاب عن تجربته بالعمل ضمن فريق ترامب، الكتاب بعنوان «الغرفة التي شهدت الأحداث»، ويحمل الكتاب– الذي حصلت وسائل الإعلام على نسخٍ منه– الكثير من القضايا المحرجة بالنسبة للرئيس الأمريكي، ولا يهمنا هنا نقاش صحة ما جاء في الكتاب من عدمه، ما يهمنا هو المعركة التي دارت حوله.
فالرئيس الأمريكي يرى أن الكتاب يحمل في صفحاته معلومات تهدد الأمن القومي الأمريكي، فبولتون شغل منصباً حساساً، ولم تمض سنة منذ استقالته من المنصب، ويعتبر من الطبيعي أن يرى البيت الأبيض نشر هذا النمط من المعلومات مضراً بالأمن القومي، وهذا ما دفع ترامب إلى تقديم طلبٍ رسمي لوزارة العدل لمنع صدور الكتاب، إلا أن قاضي محكمة مقاطعة واشنطن دي سي رويس لامبرث، لم يوافق على طلب الرئيس، ولم يصدر الأمر القضائي بمنع صدور الكتاب، الملفت في القصة لا قرار القاضي بل تصريحاته، فقد أقر لامبرث بأن بولتون «يقامر» بالأمن القومي للولايات المتحدة، وبأنه «عرّض بلاده للأذى»، إلا أن القاضي اعتبر أنه في ظل وجود الإنترنت وسرعة تداول المعلومات الكبيرة، فإن الضرر قد حصل ولا يمكن رده!
إذا أخذنا بكلام قاضي مقاطعة واشنطن دي سي، بأن الكتاب يحمل ما يهدد الأمن القومي الأمريكي، فلا يمكن فهم قرار المحكمة الذي قد يلعب على الأقل دوراً رمزياً مما «يهدد الأمن القومي» للبلاد، ويمكن للمحكمة أن تمنع صدور الكتاب، وأن تمنع تداول محتواه على وسائل الإعلام حفاظاً على أمن البلاد، لكن الشقاق السياسي القائم بات فوق الاعتبارات الأخرى. وعلى الرغم من أن سلوك النخبة السياسية الأمريكية وما يتبعها من مؤسسات ترتكب الحماقات يومياً، إلا أن هذه الحماقات باتت أشد خطورة، وإذا نظرنا إلى حساسية الظرف الأمريكي الحالي، نستطيع إدراك حجم الخطر الذي قد ينتج عن هذا المستوى من الحماقات.
«احتلال سياتل»!
على إثر الاحتجاجات العنيفة التي تجتاح مدينة سياتل في ولاية واشنطن، أصدر القضاء في المدينة أمراً مؤقتاً يمنع الشرطة من استخدام الغاز المسيل للدموع وغيره من الوسائل لتفريق المتظاهرين السلميين، وسيطر المتظاهرون على بضعة أحياء من المدينة، وأعلونها «منطقة حكم ذاتي» ضمن حركة «احتلوا سياتل الآن». ليعلن الرئيس الأمريكي رفضه للطريقة التي تتدير فيها السلطات المحلية الأوضاع في شوارع المدينة، واعتبر أن هذه الحركة يجب إيقافها فوراً، معتبراً أن المتظاهرين في المدينة «ارهابيون يحرقون وينهبون المدن»، وهدد ترامب بأنه يملك صلاحيات اتحادية تمكنه من إنهاء المشكلة إذا أصرّ حكام الولاية على عدم التحرك، وهذا ما دفع حاكم الولاية جاي إنسلي بالرد على تصريحات ترامب وطلب منه «البقاء بعيداً عن شؤون الولاية»، أما عمدة المدينة جيني دوركان فقد قالت: «إن أي اجتياح للمدينة سيكون غير دستوري وغير قانوني». واستمرت حالة الاستعصاء هذه حتى قيام مجموعة مجهولة يوم السبت 20 حزيران بإطلاق الرصاص على المحتجين مما تسبب بمقتل أحد المتظاهرين وإصابة آخر.
لا تبدو الصورة مشرقة للأيام القادمة، لا في مدينة سياتل ولا في الولايات المتحدة كلها، فالصراع يشتد بين الرئيس الأمريكي وبين حكام الولايات الذين يدّعون اليوم مناصرتهم للمحتجين ليتمكنوا من استثمارهم في المعركة الانتخابية القادمة مع ترامب، وهذا الصراع سيزيد من الشرخ الحاصل حالياً، وإن وافقنا على أن الصراع إلى الآن يجري ضمن الأطر القانونية والمؤسساتية، فإنه يتصاعد لدرجة سيصعب احتواؤه، وقد تصبح حالات إطلاق الرصاص «مجهولة المصدر» سمة للمرحلة المقبلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 971