تراجيديا أمريكية بنهايات حزينة!
يزن بوظو يزن بوظو

تراجيديا أمريكية بنهايات حزينة!

لا تعاني الولايات المتحدة من أزمة واحدة أو اثنتين، بل العشرات منها، اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولكل منها تفرعات أخرى كالأزمة المالية والنفط والحكم والصحة والخ، وجميعها ترتبط فيما بينها، وبارتباطها فإن كل واحدة منها تؤثر على الأخرى بحسب اتجاهها أكان نحو الأفضل أو الأسوأ.

خلف هذه الأزمات تقف أسباب مختلفة تخص واحدة أو أكثر منها، وسبب عام يجمعها كلها: النموذج الاقتصادي-الاجتماعي، لكن بالنسبة للقوى السياسية في الداخل الأمريكي، فإن أسباب هذه الأزمات لا تتعدى كونها «سوء إدارة» من القوة السياسية الحاكمة في الفترة السابقة أو الراهنة... فالجمهوريون يرون أن حُكم الديمقراطيين أنتج هذه الأزمات، والديمقراطيون يرون أن الجمهوريين الآن هم سببها والخ.
إن ترامي الاتهامات والمسؤوليات بين القوى السياسية الأمريكية هو أمر معتاد وطبيعي بالنسبة للأمريكيين، لكن ما يهم هو الحلول المطروحة للخروج من هذه الأزمات بالنسبة لهذه القوى نفسها، وما مدى واقعيتها؟ سنناقشها من وجهة نظر هذه الأطراف نفسها.

المسرح الأمريكي

إن التركيبة السياسية التقليدية في الولايات المتحدة تكمن في نموذج الحزبين «الجمهوري والديمقراطي»، ويضاف إليها نموذج «اليسار الأمريكي». وبناء على المسرحية المكررة دوماً، فإن الجمهوريين عموماً هم المحافظون-الليبراليون، والديمقراطيين هم التقدم-النيو ليبرالية، ويأخذ ذاك اليسار دور «التنفيسة» الاجتماعية كلما اشتدت الضغوط داخلياً ليعتلي المنابر الإعلامية ويقيم «النقد». لكن لا يغفل على أحد، بأن لجميع هذه الأدوار ضمن المسرحية، مُخرجٌ واحد، وهو ما يصطلح عليه بالنخبة الأمريكية؛ رؤوس الأموال الأكبر في البلاد، ففي توافقهم يبرز الطرف السياسي المراد له اعتلاء المسرح في اللحظة المعنية لتحقيق المصالح والأهداف المطلوبة، وفي خصامهم/انقسامهم يحدث ما نراه منذ سنين، من صد ورد فيما بين هذه القوى وضمن مؤسسات الدولة كمجلس النواب والشيوخ والبيت الأبيض، تحديداً منذ اعتلاء الجمهوريين/ترامب بشعار «الانكفاء نحو الداخل».

أدوار وحلول شخصيات المسرحية

هذا الشعار الأخير، هو أحد الحلول المطروحة من وجهة نظر «المحافظين»، الذين يبدو أنهم في اللحظة الحالية قد اختيروا ليعبروا سياسياً، وعموماً، عن مصالح رعاة «الإنتاج الحقيقي» من تلك النخبة، الإنتاج الصناعي/الزراعي، بعد انقسامهم، خصوصاً بعد الأزمة المالية عام 2008، ويعبر الديمقراطيون عن رعاة «الإنتاج غير الحقيقي» والذي يأتي على رأسه «المالي» الدولار/ البورصة / المصارف، لكن دون أن يعني حصر هذا الطرف السياسي أو ذاك بهذه الفئة وحدها بشكل قاطع.
وبالإضافة لذلك، فإن هذا التناقض في المصالح بين الفئتين ضمن هذه النخبة الواحدة نفسها، لا يعني بأنهم أعداء لدرجة قضاء أحدهم على الآخر... بعد! فوجود ونشاط كل منهم يعتمد على الآخر، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.
حينما اعتلى الجمهوريون/ترامب المسرح الأمريكي إثر تبعات الأزمة المالية السابقة والتراجع الأمريكي، كانت الرؤية والأهداف واضحة وبسيطة للخروج بأقل الخسائر و«استعادة المجد الأمريكي»: عبر الانكفاء الاقتصادي نحو الداخل، أي عودة رؤوس الأموال من الخارج إلى الاستثمار داخل الولايات المتحدة، وإغلاق الولايات المتحدة على نفسها اقتصادياً وسياسياً، أي الانسحاب من الاتفاقيات الدولية التجارية والسياسية التي تلزم ولو شكلاً بأن «تدفع» الولايات المتحدة حصةً من ناتجها المحلي، كاتفاقية التجارة الدولية واتفاقية باريس للمناخ، وإن كان أثر ذلك خسارة بعض الواردات، بمقابل النهوض بالنشاط الاقتصادي داخلياً لتمتين «اقتصاد/إنتاج حقيقي» قادر على مواجهة الأزمة المقبلة بانفجار فقاعة الدولار.
بينما يرى الديمقراطيون/بايدن، بأن هذه سياسة خاطئة تماماً، من وجهة نظر مصالح رعاتهم، والحل هو عكس ذلك: عبر توسيع الاستثمارات الخارجية، والاعتماد على مداولات الدولار عالمياً، أي وباختصار، العمل بنفس العقلية السابقة لترامب، متجاهلين ما تنتجه من أزمات.

أحداث تراجيدية جديدة ونهايات حزينة

لقد كان هذا المنطق السائد خلال السنين القريبة السابقة، لكن منذ بداية هذا العام، وما صحبه من أزمات: انهيار أسعار النفط، وانهيار البورصات، والأزمة الصحية إثر وباء فيروس كورونا المستجد، جميعها أدت إلى تفاعلات أعلى وأشد في الأزمة الاقتصادية والسياسية الأمريكية، وبالوقت الذي أوضحت أزمتا النفط والبورصة بشكل جلي مدى الارتباط بين التيارين الصناعي والمالي، عرّت الأزمة الصحية ذاك الدجل السياسي لثلاثي شخصيات المسرح بسبب عجزهم عن تقديم أية حلول جدية، ليس بالنسبة للشعب الأمريكي وحده، بل وحتى بالنسبة للنخبة الحاكمة نفسها بمستقبلها.
حيث أن كِلا الطرحين، لا يمثلان حقيقةً حلاً للأزمات الراهنة والمقبلة، إنما لا يتعديان أن يكون الأول جرعة «مضاد ألم» للتخفيف من الصدمة، والآخر «تخديراً» لتأخير الانفجار إن أمكن.
ففي السيناريو الأول، استمرار سياسية الانكفاء والإغلاق تعني خسائر مالية كبيرة وسريعة بمقابل وجود درجة ما من قدرة تحمّل الأزمة المقبلة، لكنه الآن تحديداً قد تلقى أول ضربة كبيرة عبر الخسائر في سعر النفط الصخري الأمريكي.
بينما السيناريو الثاني، باستمرار التوسع، يعني محاولة تحقيق مزيدٍ من الأرباح عبر التجارة والمداولات المالية الخارجية القائمة على الدولار كسلعة، لكنه أيضاً وبسبب أزمة النفط نفسها، عبر وضعها للدولار بموقع خطر يشير إلى قرب تفكك علاقة البترودولار، لتهدد تلك الأرباح، بأن تبدأ الدول بالتخلي عن الدولار كعملة لتبادل النقط، وبالتالي تسرّع من الأزمة المالية.

إلى أن ينهار المسرح؟

إن هذا المستقبل «المغلق» أمام النخبة الأمريكية بأرباحها، لا يضعها إلا أمام اتجاه واحد ووحيد، وهو أن تأكل بعضها بعضاً، عبر عملية تمركزٍ أعلى، أي أن ذاك الانقسام والخلاف، وبطرحيه أكان إنغلاقاً أم انفتاحاً، سينتج جديداً عنه، نخبة جديدة، أصغر حجماً، مع فائض قليل من ثروة من سيخرج منهم ليقتاتوا عليها مؤقتاً ريثما تعاود مشكلة «عدم وجود ربح جديد» بالتفاعل فيما بينهم، وبالمقابل فإن مركزةً كهذه، تحتاج نموذجاً سياسياً آخر غير «مسرحية الحزبين» لتتوافق معها داخلياً، لا يمكن التنبؤ بشكله، إلا أنه وبكل تأكيد سيكون نموذجاً أكثر دفاعيةً/حمائية بالنسبة لهذه النخبة الصغيرة، وأضعف.
وينطبق هذا التغيير على المستوى الخارجي في مكان وعلاقة أمريكا دولياً، فبشكلٍ أو بآخر ستضطر هذه النخبة إلى مواجهة واقعها، لتعاود على فتح التجارة مع الصين رغم كل ما يجري من تصعيدٍ عليها الآن، وليس بسبب ضغوط صينية، إنما تلبية لنداء قانون «الربح» الذي يسيّر هذه النخبة نفسها موضوعياً، فشراء واستيراد بنية اتصالات الجيل الخامس أوفر من عملية البحث العلمي لها، ولإنتاجها وخاصة مع مستوى التنافس في الأسعار الذي ستخسر به أمريكا أمام الصين، ومن يدري، فإلى أن ينتج يسار حقيقي داخل الولايات المتحدة قادر على خلع هذه المنظومة وإنتاج بديلٍ عنها، قد تشتري هذه النخبة منظومة الإس-500 الروسية أيضاً؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
966
آخر تعديل على الأربعاء, 20 أيار 2020 14:55