الاتحاد الأوروبي مشروع مشروطٌ بالربح!
عماد بيضون عماد بيضون

الاتحاد الأوروبي مشروع مشروطٌ بالربح!

كانت الأزمات الاقتصادية ملازمة لتاريخ الرأسمالية الذي شكل جزءاً قصيراً من التاريخ الإنساني، وكانت السمة العامة لهذه الأزمات، هي خروج قلة بمرابح كبيرة من جيوب الخاسرين، فالأزمات تعني فرصة للبعض للتوسع على حساب البعض الآخر، وأوروبا اليوم على مشارف تمركز أشد للثروة قد يحمل معه ردات فعلٍ عنيفة من الخاسرين.

إن أية محاولة لقراءة الواقع والمستقبل السياسي لأوروبا تمرّ حتماً عبر فهم الواقع الاقتصادي للقارة، فكما أشرنا في المقدمة، تحمل كل أزمة فرصة لتوسع البعض على حساب البعض الآخر، ويفسر هذا أن رؤوس الأموال تنتقل من قطاعات إلى قطاعات أخرى، أو تنتقل إلى المراكز الأكثر استقراراً وتأثيراً مبتعدة عن الأطراف، فرأس المال يتحرك مدفوعاً بربحه ولا يفكر بغير ذلك.

محاولات لفهم الدور الألماني

كانت ألمانيا صاحبة فكرة الاتحاد الأوروبي، وخططت لإطلاق المشروع، وقد تلعب ألمانيا دوراً أساسياً في إنهائه. فاستطاعت الطغم المالية الألمانية من خلال بنية الاتحاد الأوروبي السيطرة على جزء كبير من دول الاتحاد، وهو ما عجز عنه عتاة قادة النازية بكل جيوشهم، حيث تغلغلت ألمانيا مالياً في كل الدول المحيطة، بالإضافة إلى أنها استطاعت تحقيق أرباحٍ كبيرة من أزمات الاتحاد الأوروبي، وهو ما تؤكده بعض الدراسات الاقتصادية.
تتحدث إحدى الدراسات الألمانية المنشورة على موقع «ديوتش فيله» عام 2015، أن أزمة الديون السيادية الأوروبية– التي أعقبت الأزمة الاقتصادية في 2008 – مكّنت ألمانيا من تحقيق فوائد كبيرة، وتقول الدراسة: إن دافعي الضرائب الألمان كانوا أحد أكبر الرابحين من أزمة الديون اليونانية، فقد سببت هذه الأخيرة انخفاضاً كبيراً في فوائد الديون الألمانية، وهو ما نتج عنه بأشكال متنوعة إيرادات للخزينة الألمانية بلغت حسب الأرقام التي نشرها معهد أبحاث الاقتصاد في مدينة هاله أكثر من 100 مليار يورو، وهذا المبلغ أكبر من كامل المبلغ الذي تدين به اليونان إلى ألمانيا والذي بلغ 90 مليار، هذا يعني أن عدم قدرة اليونان على سداد دَينها لم يشكل مشكلة حقيقة بالنسبة لألمانيا لانه انعكس بشكل إيجابي على اقتصادها، في الوقت الذي شكل هذا الدَّين حملاً ثقيلاً على مواطني اليونان الذين انتفضوا في وجه سياسات حكوماتهم المحابية للاتحاد الأوروبي.

مفهوم ألمانيا للتضامن

لو أحصينا المرات التي تحدث بها السياسيون الألمان عن التضامن الأوروبي، لتغلبوا على كثافة حديث واشنطن عن محاربة الإرهاب، وكما بيّنت الوقائع أن الولايات المتحدة الأمريكية دعمت الإرهاب أكثر ما حاربته، كذلك ألمانيا فقد كانت دائماً معيقاً حقيقياً لفكرة التضامن. وتبدو ملامح الخلاف بين المحكمة الدستورية العليا الألمانية والمفوضية الأوروبية، وكان آخرها عدم قبول هذه المحكمة للبرنامج المركزي الأوروبي لشراء سندات القطاع العام، وقالت المحكمة في قرارها: إنها «وجدت لأول مرة في تاريخها أن إجراءات وقرارات مؤسسة أوروبية لا تقع ضمن نظام الاختصاص الأوروبي، مضيفاً: أنه لا يمكن بذلك أن تكون هذه الإجراءات فعالة في ألمانيا، وهو ما يعني مخالفة ألمانيا لقرار مركزي أوروبي وهذا ما تطلب رداً من المفوضية الأوروبية التي أعلنت أنها ستبحث في قرار المحكمة الألمانية، ولكنها أكدت في الوقت نفسه «أن الأحكام التي تصدرها أعلى محكمة في الاتحاد الأوروبي سيكون لها القول الفصل»، وفي مثالٍ آخر رفضت المستشارة الألمانية فكرة الديون الأوروبية المشتركة «سندات كورونا»، وأيدت بالمقابل ما سمي آلية الاستقرار الأوروبي التي تضمن لألمانيا استرداد ديونها وأرباحها كونها الممول الأكبر والأكثر موثوقية بين الدول الغارقة في طوفان الديون السيادية.
يعتبر سلوك ألمانيا مفهوماً، فهدف الطغمة المالية مختلف عن شعار التضامن، حيث يفضل هؤلاء استثمار الفرص لابتلاع المنافسين والتوسع على حساب باقي الدول، وبما أن ألمانيا تستفيد من قوة تصديرية ومن أسواق تحميها جيوش الناتو، فهي لا تمانع هذا التوسع، وإن كان هذا التوسع يجري سابقاً على حساب الدول الأفقر في الاتحاد فهو يستهدف اليوم «شركاءها» السابقين، فدول مثل فرنسا وإيطاليا ترى نفسها مهددة اليوم وباتت تتوقع مصيراً مشابهاً لمصير اليونان.

استعباد أوروبا مرة أخرى

يبدو أن ألمانيا لا تعجبها نتائج الحرب العالمية الثانية، ولا تعجبها التقسيمات الناتجة عنها، وإن منطق استعادة الكرامة لم يخب في عقول الطغم المالية الألمانية، وبما أن هذه الطغم لاقت إعفاءات وتسهيلات في محاكمة نورنبيرغ واستطاعوا الفلات من المحاسبة وشكلوا بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية سداً ضد الاتحاد السوفييتي وضد انتشار الشيوعية، وهذا ما شجع الأمريكان على أن تكون ألمانيا قلعة متينة، ولعب هذا العامل التاريخي دوراً كبيراً في دفع ألمانيا للتطور أكثر من الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، فتعتبر ألمانيا أكبر مستورد للسلع النصف مصنعة ورابع قوة اقتصادية عالمية تدعمها صناعات ذات قيمة مضافة عالية، واستفادت لاحقاً من انهيار الاتحاد السوفيتي وتوسعت على حساب دول شرق أوروبا وروسيا، وهي اليوم تحاول التوسع أكثر لاستعباد أوروبا من جديد ولكن عبر مقصلة الدَّين هذه المرة،
عندها قد تلعب ألمانيا وحدها كدولة قوية وعندما يغرق الجميع، وسيكون خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي قريب الحدوث رغم ما سيحمله من تناقضات قد تكون أكبر من قدرة ألمانيا على الاحتواء.

هل تنتفض أوروبا اللاتينية

إن الاتجاه الذي فرضته ألمانيا للاستدانة من خلال «صندوق الاستقرار الأوروبي» لا يشكل بأي شكل حلاً لأزمة الديون السيادية الأوروبية، بل على العكس، وسيكون له أثر المورفين على الاقتصاديات المتضررة، وعندما ينتهي مفعوله ستستيقظ هذة الدول وقد قضت على كل المنجزات الاجتماعية التي حققتها الطبقة العاملة فيها، وستكون هناك انتكاسات عميقة في المستويات الاجتماعية، فالسترات الصفراء في فرنسا والحركات الاحتجاجية في أوروبا ليست إلا تعبيراً مكثفاً عن أزمةٍ خانقةٍ، وإذ كانت بعض طغم المال في الاتحاد الأوروبي قد دفعت اليونان لانفجار كبير لم يكن من السهل احتواؤه فما هي نتائج أزمة ديون بحجم مضاعف؟ الاتحاد الأوروبي الذي اهتز على وقع صرخات اليونانيين سيواجه أزمات ديون أكبر وأعنف...

معلومات إضافية

العدد رقم:
965
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:43