تواطئ أشباه اليسار وكارثة الصحّة العامة
لطالما تعرّضت الأفكار الاشتراكية للسخرية والتهكم من المؤسسة التي نراها اليوم تواجه عواقب ازدرائها المدفوع بالربح. علينا أن نُصمت اليوم خوار هؤلاء المهللين للرأسمالية.
بقلم: إيمون ماكّان
ترجمة: تمام هاجر
استعان دونالد ترامب في 27 آذار بقانون «الإنتاج الدفاعي» لتوجيه شركة جنرال موتورز لتصنيع المنافس التي يحتاجونها بشكل يائس في المستشفيات من أجل علاج كوفيد-19
قبل بضعة أسابيع من هذا التاريخ، تحديداً في 15 آذار، رفض ترامب الدعوات لاتخاذ إجراءات لإيقاف انتشار الفيروس. بالنسبة له كانت كامل مسألة فيروس كورونا «خدعة»، وأولويته هي «إعادة إطلاق الاقتصاد». وبحسب زعمه كان أعضاء الحزب الديمقراطي يُهولون الفيروس ويتلاعبون بالاقتصاد من أجل الإضرار بفرصته للترشح لولاية ثانية.
في ذات الفترة كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يسخر من الإجراءات التي كان يطالب الأطباء بها – حيث زار مشفى يعالج المرضى المصابين بكوفيد-19 وصافح أيادي جميع من مروا به – ليقوم بعدها بانعطاف حادّ ويبدأ بإلقاء العظات حول المسؤولية الاجتماعية وضرورة اتباع النصائح الطبيّة.
إنّ كلا ترامب وجونسون متحيزان جنسياً وعنصريان وغير مثقفين ومتعصبين متنمرين، لكنّ التركيز على هذه الجوانب من شخصياتهم سيقودنا لتضييع النقطة الرئيسية. يتصرف ترامب وجونسون بذات الأسلوب لأنّهما يتشاركان ذات الإيديولوجيّة.
الخدمات الصحية في حالة تفتت
فهما يعملان ضمن الحدود النيوليبرالية، ولهذا فالخدمات الصحية في كلا البلدين كانت في حالة تفتت قبل حتّى أن تصبح كلمة «فيروس كورونا» شائعة الاستخدام. هناك ما يقارب 30 مليون أمريكي ليس لديهم أيّ تأمين صحي على الإطلاق. أحد الفتية البالغ عمره 19 عاماً من الذين ضربهم كوفيد-19 توفي الأسبوع الماضي أثناء انتظاره للعلاج. فلأنّه لم يكن مؤمناً صحياً كان عليه الانتظار في آخر الطوابير المنتظرة للعلاج. وكما صاغ الكاتب الأمريكي-الإيرلندي داني كاسيدي الأمر: «هذه بلاد سيئة ليموت المرء فيها».
تمّت مهاجمة بيرني ساندرز بقسوة لتبنيه لزيادة إنفاق الدولة على المنشآت الصحية وتوفير الرعاية الصحية المجانية للجميع. الهجوم من زعماء الحزب الديمقراطي كان بمثل ضرواة أيّ شخص من حزب ترامب. إليزابيث وارن، والتي تمّت ترقيتها خلال الانتخابات التمهيدية بوصفها «تقدمية» بديلة لساندرز، قالت له خلال مناظرة تلفزيونية: «أنت تبيع قوس قزح».
تلقى جيرمي كوربين ذات المعاملة أثناء انتخابات المملكة المتحدة الماضية. سخر منه المحافظون وصحفيو الإعلام الأصفر بالقول: الفطائر تنزل من السماء، لا بدّ وأنّه يظنّ بأنّ هناك شجرة مال سحرية، سيجعل الاقتصاد ينهار ... الخ.
شخصيات بارزة من حزب العمّال وقفت إلى جانب المحافظين وبدأوا بالقول: سياساته فيها إنفاق كبير ما جعل الحزب «غير قابل للانتخاب»، أو خططه قد تبدو جذابة، لكن «من أين سيأتي بالمال لها؟».
عدائية الأحزاب اليمينية للقطاع العام
في كلا البلدين، الحزبان اليمينيان الأبرز كانا عدائيان بشكل عنيد تجاه القطاع العام، وأرادا أن تقوم «السوق» بإملاء جميع الأولويات الاجتماعية. في كلا البلدين أيضاً قامت أحزاب المنظومة اليسارية بدورها بالالتزام باقتصاد السوق، وذلك رغم اتخاذها مقاربة أنعم مع رغبتهم الشديدة بالمساومة.
رئيس وزراء حزب العمال طوني بلير بدأ الأمر باتباعه خطى تاتشر في تسليم رأس نظام الرعاية الصحي والاجتماعي للشركات الخاصة التي لا تملك أيّة مصلحة في تزويد الناس بالرعاية الصحية وسجلها لا يثبت سوى تهشيمها للمصلحة العامة. اتخذ قادة حزب العمال اللاحقين ذات الموقف، حتّى أتى كوربين.
لم يرد المحافظون نظام الصحّة الوطني «NHS» منذ تشكيله في عام 1947. كانوا مصممين على خنقه وهو في المهد، الأمر الذي دفع بوزير الصـحة العمالي في حينه: أنورين بيفان إلى الزمجرة قائلاً في برقية رسمية: «المحافظون طفيليات ضارة».
لم نعد نسمع مثل هذا الحس السليم من قادة حزب العمّال «المعتدلين» اليوم.
استطاع نظام الصحة الوطني النجاة والاستمرار بوصفه المؤسسة الأكثر حباً في المملكة المتحدة. لكن بعد أعوام من الحكم الطفيلي، باتت بالفعل في حالة ضعيفة في الوقت الذي ضرب فيه فيروس كورونا: بكوادر غير كافية ونقص حاد في المعدات الرئيسية.
الخصخصة وسياسات التقشف
لا يعود عدم التحضّر إلى المفاجأة التي ضرب فيها المرض، بل للخصـخصة وسياسات التقشف التي فُرضت على مدى أعوام. كان أمر الاحتفاظ بمخزون احتياطي من أجهزة التنفس من أجل احتمال حدوث زيادة في أمراض الجهاز التنفسي منطقياً جداً بالنسبة للأطباء والممرضين وعموم الشعب. لكنّ بالنسبة لرؤساء صناديق الصحة وأسيادهم من السياسيين ومجموعات الضغط، بدا أنّ شراء آلات مكلفة وتركها خاملة أمر غير منطقي.
كلّ ما كان يهمهم هو البقاء ضمن حدود الميزانية وتقليص الإنفاق وإبقاء المشغلين من القطاع الخاص سعداء.
تدافع الكمامات اليائس
ذات النمط يمكن رؤيته، ولكن بحدّة أكبر في الولايات المتحدة. عندما بات من الاستحالة إنكار مدى انتشار أزمة فيروس كورونا، بدأ التدافع اليائس للحصول على الكمامات والعباءات ومعدات الفحص ومنافس التهوية ...الخ. بدأت الولايات تتنافس ضدّ بعضها البعض. ارتفعت الأسعار. باتت سوق المعدات الطبية عبارة عن فوضى ممّا عمّق اليأس المحاط بالجشع المتفشي.
لكن حتّى عندما وقف ترامب أثناء تقديسه للقطاع الخاص ضدّ تدخل الدولة. بل عوضاً عن ذلك، دعا الشركات ومن بينها جنرال موتورز لملء الفراغ عبر تحويل إنتاجها إلى منافس التهوية والكمامات ...الخ.
فقط عندما أعلنت جنرال موتورز عن كونها غير قادرة على إنتاج المعدات في الوقت المتاح قام ترامب تحت ضغط العامة ومستشاريه للصحّة بإصدار مرسوم تفعيل قانون الإنتاج الدفاعي. لكنّه لا يزال يرفض أيّ اقتراح بأن تقوم الدولة بالسيطرة على الوضع، فهذا سيكون «اشتراكية». عوضاً عن ذلك قام بدعوة جنرال موتورز وغيرها من المصنعين المحتملين للدخول في مناقصة على عقود من مزودي الصحة العامة.
في هذه الأثناء، وعلى طول الأرض الأمريكية، تضاعف انتشار الفيروس وانتشاره ثمّ تضاعف من جديد. إنّ إصرار النظام على عدم الابتعاد عن السوق أدّى بدوره إلى هلهلة النظام الصحي أكثر، ما دفع بمعدلات الوفيات لترتفع أكثر.
تواطؤ القوى السياسية التقليدية
في بريطانيا، وفي الوقت الذي وصل فيه الوباء، انخفض عدد الأسرة المتاحة في نظام الصحّة الوطني لأدنى مستوى له على الإطلاق، هبط من 144.455 سرير عندما استولى المحافظون على السلطة في حزيران 2010 إلى 127,225 في تشرين الثاني 2019. وقفت نقابات نظام الصحة الوطني والمجموعات المجتمعية وناشطو اليسار ضدّ تقليص الإنفاق ونظموا الإضرابات والتظاهرات. لكنّ معارضة الشارع لم تجذب دعم الزعماء السياسيين وكان شعارهم الدائم: «لا يمكننا تحمل نفقاتها».
إنّ تواطئ الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وكذلك قادة العمال في المملكة المتحدة، مهّد الطريق لترامب وجونسون كي يهشموا شروط الصحة العامة ما جعل المسنين والمرضى والضعفاء في خطر رهيب عند وصول الوباء.
إنّه لمجتمع مريض هذا الذي نعيش فيه اليوم، لا يهتم بالناس بل فقط بالتنافس والربح، الأمر الذي ضمن أنّ يصبح الوباء تهديداً للحياة نفسها.
عندما نفرغ من هذا علينا أن نكون مستعدين لتسوية حساباتنا مع الرأسمالية والمهللين لها بالطريقة الصحيحة: بوضع أقدامنا على صدورهم، وأصابعنا في عيونهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 963