أفول إمبراطورية (2) أوروبا تدير ظهرها لـ«الباب العالي»
«على أوروبا ألّا تسمح للولايات المتحدة بالتصرف رغماً عنّا وعلى حسابنا. لهذا السبب، من الضروري أن نعزز الاستقلالية الأوروبية من خلال إنشاء قنوات دفع مستقلة عن الولايات المتحدة، وإنشاء صندوق نقد أوروبي ونظام سويفت مستقل». عندما أدلى وزير الخارجية الألماني، هيكو ماس، بهذا التصريح خلال العام الماضي، لم تكن العلاقات الأوروبية الأمريكية قد وصلت بعد إلى المستوى الحالي من الانحدار، فإلى أين تسير هذه العلاقات؟ وما هي الأسباب الجوهرية للتبدّل الجاري فيها؟
تتسع الهوّة بين أوروبا والولايات المتحدة، وتغدو الصورة أكثر وضوحاً شيئاً فشيئاً؛ الوقائع المتغيّرة على الصعيد العالمي، وتوازنات القوى التي تواصل تغيرها خلافاً للمصلحة الأمريكية، تدفع الدول التي تريد لنفسها دوراً مهماً في العالم الجديد إلى أن تقطع مع منطق المنظومة القديمة، وأن تحسم سياساتها في اتجاه الدول الصاعدة، والدول الأوروبية ليست استثناءً من هذه القاعدة...
إعادة ترتيب الأولويات
يزداد الضغط الإستراتيجي على الدول الأوروبية منذ زمن، وقد دفعها هذا الضغط مراراً للتخبط في سياساتها الخارجية والداخلية على حدٍّ سواء. وإن كان وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة قد فاقم الشعور الأوروبي بالحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات، فإنّ ذلك بالتأكيد ليس بسبب ترامب نفسه، إنما هو مرتبط بالميل المستمر لعوامل القوة (الاقتصادية والسياسية والعسكرية) من الولايات المتحدة باتجاه الصين وروسيا وحلفائهما في العالم.
وفي حين تقوم الولايات المتحدة بإعادة ترتيب أولوياتها هي الأخرى، تضطر إلى وضع حلفائها في مواقف لا يحسدون عليها؛ إذ إن ما تطلبه الولايات المتحدة من حليفٍ كالأوروبيين لا يمكن لقوةٍ عاقلة أن تقبله: عليكم أن تقبلوا بدفع فواتير سياساتنا، وأن تكونوا جاهزين لسلسلة التوريطات المتوقعة حفاظاً على إستراتيجيتنا، وعليكم ألّا تستفيدوا من الفرص التي تقدمها القوى الصاعدة، ولا تتوقعوا منا أن نقدم منفعة بديلة!
سياسات الدّمار وسياسات السلام
رغم كل ما ضخته البروباغندا الغربية حول «السلام الذي ساد أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية»، إلا أن الوقائع تقول: إنّ الولايات المتحدة جلبت الفوضى والدّمار إلى أجزاءٍ كبيرة من أوروبا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أشعلت أو دبّرت الحروب في يوغسلافيا في التسعينات، والنزاع بين جورجيا وأوسيتيا في الفترة ذاتها، والحرب في جورجيا عام 2008، وانقلاب أوكرانيا وما تلاه في عام 2014... إلخ.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أدّت الأولويات الجديدة لواشنطن، وتحديداً مسألة انسحابها من المعاهدات العسكرية والسياسية والبيئية، إلى ترك تأثيرات واضحة على أوروبا أمنياً واقتصادياً، وترك ذلك مساحة مناورة للدول الأوروبية سرعان ما التقطتها لتعزز تعاونها مع كل من موسكو وبكّين.
من الناحية الاقتصادية، عرضت الصين على أوروبا الاندماج الكامل في مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع ينطوي على إمكانات هائلة لزيادة التجارة بين عشرات الدول، ولتغدو أوروبا سوقاً رئيسة للبضائع الصينية، وهذا ما يدفع دولة كاليونان مثلاً (التي عانت ما عانته خلال مفاوضاتها الاقتصادية المذلة لتسوية ديونها) للأمل بإيجاد حبل نجاة من كارثتها الاقتصادية المقبلة. ومن الناحية التكنولوجية، أثبتت جهود بكين نجاحاً منقطع النظير في أوروبا، إذ تمهّد الطريق للتكامل المادي في مشروع الطريق والحزام. وبهذا المعنى، فإن مشاركة بلدان أوروبية مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا في بنك الاستثمار في البنى التحتية الآسيوي الذي تقوده الصين يدل أيضاً على مدى أهمية استثمارات رؤوس الأموال الصينية في الاقتصادات الأوروبية المتعثرة، بكل ما يحمله ذلك من منافع لن تقف على ما يبدو عند حدود الاستفادة الأوروبية من تقنيات الجيل الخامس «5G» الصينية.
النفط والدولار وحسابات المصلحة
في المجال العسكري، يهدد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى INF سلامة الدول الأوروبية؛ فمن وجهة النظر الأوروبية، يسبب الدفع الأمريكي باتجاه سباق التسلح خطراً على أوروبا أكثر مما يهدد روسيا فعلياً. فأوروبا، باعتبارها ساحة المعركة المحتملة في أية مواجهة بين موسكو وواشنطن، لديها الكثير لتخسره في حرب باردة متجددة قد تتحول إلى «حرب ساخنة».
في الوقت نفسه، تُريد واشنطن التخلص من التزاماتها في حلف الناتو، بينما تطالب الأوروبيين بإنفاق المزيد على الأسلحة الأمريكية وكذلك الحد من الاستثمارات الصينية الروسية في أوروبا. وفي هذا الإطار، تتزايد التحليلات الأوروبية التي تؤكد أنه من المحتمل أن انهيار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى سيعزز المحادثات الدبلوماسية بين روسيا وأوروبا، دون أن يكون لدى واشنطن القدرة على تخريب الاتفاقات المستقبلية، في وقتٍ تحرص فيه بعض الدول الأوروبية على التخلص من سياسة إخضاع مصالحها لمصالح واشنطن، وخاصة في ما يتعلق بالأمن.
في هذا السياق، تستخدم روسيا بذكاء ورقتين حاسمتين للحد من تأثير واشنطن على أوروبا، واحتواء الفوضى التي تنتجها السياسة الخارجية الأمريكية. فأولاً، حسمت موسكو تفوقها العسكري على الولايات المتحدة ووضعت الأسس الردعية ضد الاستفزازات المتوقعة (راجع مقالة «سباق التسلّح: أزمة وقت ومال وخيال علمي!» - قاسيون- العدد 919). ثانياً، تستفيد موسكو من قدراتها الواسعة في مجال النفط والغاز الطبيعي، وتقوم بتصديرهما إلى السوق الأوروبية بكميات كبيرة. إنّ الجمع بين هذين العاملين يسمح لموسكو باحتواء الفوضى التي أطلقتها واشنطن في دولٍ مثل جورجيا وأوكرانيا، وكذلك الحد من نفوذ الولايات المتحدة في الشؤون الأوروبية الداخلية، كما يمكن ملاحظة ذلك في حالة ألمانيا ومشروع «السيل الشمالي2»: ميركل التي لم تكف يوماً عن محاولات شيطنة روسيا، لا تستطيع اليوم التملص من إمدادات روسيا من الطاقة، لا لشيء إلّا لأنّ المصلحة الألمانية العميقة لن تسمح لها بسياساتٍ معاكسة. وقد زاد هذا من التوترات بين برلين وواشنطن التي تطالب باستبدال الغاز الروسي بالغاز الطبيعي الأمريكي المسال الأكثر تكلفة، والذي يضطر إلى عبور المحيط الأطلسي كاملاً.
إن القوة الاقتصادية الصينية، إلى جانب الردع العسكري الروسي وكذلك اعتماد أوروبا على روسيا لإمدادها بالطاقة، تُظهر أن أوروبا لا تستطيع أن تجاري «حليفها» الأمريكي في سياساته العدائية ضد المحور الصيني الروسي الصاعد. وفي الواقع، يمكن ملاحظة بذور نزعة أوروبية نحو اتخاذ سياسات مستقلة: برز ذلك في إطلاق أداة instex بوصفها نظام دفع بديل عن الدولار للالتفاف على العقوبات ضد إيران، وفي ميل فرنسا وألمانيا إلى التخفيف من حدة تصريحاتهما حول أوكرانيا، ومُضي برلين في «السيل الشمالي2» رغم كل التهديدات الأمريكية.
الظّرف يسمح...
على امتداد سنوات الهيمنة الأمريكية، تركت الولايات المتحدة هامشاً محدداً من «الاستقلالية» للدول الأوروبية، إنه نوعٌ من «الاستقلالية» التي يتمتع بها الولاة في إدارة شؤونهم بما يصبّ في خدمة السلطان، لكن، وكما حدثتنا الروايات التاريخية عن ولاة فعلوا أقصى ما في جهدهم وجاروا وطغوا على مجتمعاتهم المحلية لإرضاء السلطان، حدثتنا أيضاً عن ظروفٍ سمحت لبعض الولاة في إدارة ظهرهم لـ«الباب العالي».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 928