تونس.. هل ستكون انتخابات الرئاسة خطوة أولى؟
تقدم حتى انطلاق باب الترشيح 98 مرشحاً لانتخابات الرئاسة التونسية المزمعة منتصف الشهر المقبل في مقر الهيئة المستقلة للانتخابات، بعد الإعلان في الخامس والعشرين من تموز الماضي عن وفاة الباجي قائد السبسي الرئيس السادس لتونس خلال الفترة 2014-2019، وتولي رئيس البرلمان التونسي محمد الناصر للرئاسة المؤقتة في الأول من آب الجاري، والذي تقلد في عهد الحبيب بورقيبة عدداً من المناصب الوزارية، قبل أن يعود إلى الساحة السياسية بعد انتفاضة 2010 منتهجاً سياسة التوافق مع القوى السياسية الأخرى في الساحة التونسية، وأهمها حركة النهضة بزعامة الغنوشي...
المشهد الحالي في تونس يعكس عدم تبلور البرامج السياسية الاقتصادية الاجتماعية للقوى السياسية التونسية- والبالغة في بعض الإحصائيات 218حزباً- باتجاه يعبّر عن المصالح الحقيقية والوطنية للمجتمع التونسي، كما يفتح المجال واسعاً للتدخل الخارجي عبر أجندات قوى سياسية شكلية في تونس. كما أنَّ عدد المرشحين الكبير يتناقض مع الترويج الإعلامي لمحدودية صلاحيات المنصب في الخارجية والدفاع، ويرفع احتمالات النية لدى القوى السياسية لإجراء التغيرات في تلك الصلاحيات لجهة تمركز السلطات فيه مستقبلاً.
أبرز المرشحين للرئاسة الرئيس السابق المنصف المرزوقي للفترة 2011-2014 الذي تحالف مع حركة النهضة لتدعيم سلطته في حينه، ورئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي المنسحب من حركة النهضة في 2014، ويوسف الشاهد رئيس الحكومة عن حركة تحيا تونس منذ 2014، ومرشح حزب النهضة للمرة الأولى في تاريخها عبد الفتاح مورو، والذي يحتل المرتبة الثانية في التمثيل في البرلمان التونسي الذي ستنتهي ولايته العام الحالي، وعدد من رجال الأعمال والمستقلين...
اللافت أن جميع المرشحين يتفقون حتى الآن على التوافق السياسي، بما يعنيه من عدم قدرة أي من القوى السياسية التي يمثلونها على الحسم السياسي، إضافةً إلى إشاعة جو من تقبل تلك القوى- خصوصاً حزب النهضة- للبرامج السياسية الاقتصادية (المختلفة)، وهو ما يشير إلى مضمون واحد لها، يتعلق بعدم المساس بطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم في تونس، والاكتفاء ببعض الإصلاحات القانونية كالتعديلات المقترحة من الرئيس الراحل والمتعلقة بمراجعة قوانين المساواة في الإرث، والحق في الزواج من غير مسلم... إلخ، والتي تصطدم بمعارضة المحافظين الداعين إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في هذا المجال، وهو ما يسبب انقساماً مجتمعياً ثانوياً منحياً الانقسامات الأساسية في تونس، والتي كانت السبب الجوهري في اندلاع انتفاضتها الاجتماعية، والتي لم تُتّخذ أية قرارات جدية لحلها!
إذ لا تزال تونس حتى اليوم بلداً ذا نظام احتفظ بليبراليته العتيدة، وما تسببه من انتشار للفساد والمحسوبية منذ أواسط القرن التاسع عشر على الأقل لدى خضوع سلطة الباي فيه لإملاءات الغرب، وقيامه بالإصلاحات التي رمت بالبلاد في أحضان صيارفة أوروبا بعد ترهل السلطة التركية فيه وفي شمال إفريقيا. وقد أدت تلك الإصلاحات منذ ذلك الحين إلى استعباد تونس، ووقوع مقدراتها الزراعية متضمنة الأراضي، والباطنية من الفوسفات والرصاص.. إلخ، والسوق وخطوط السكك الحديدية والموانئ والمرافئ، إضافةً إلى مقدراتها المالية بالكامل، وموقعها الإستراتيجي الهامّ في أضيق جزء من البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى جهاز الدولة ذاته تحت سلطة الغرب الأوروبي الإمبريالي. وقد تنازعت كل من فرنسا وإيطاليا وإنكلترا، بالإضافة إلى تركيا المتداعية، السيطرة عليه، قبل أن تحسم الحصص الاستعمارية الأمر لصالح فرنسا في 1881، ليقع كأول بلد عربي تحت سيطرة الاستعمار المباشر. ورغم نيله الاستقلال في 1958 خلال فترة التحرر الثوري المدعوم من المنظومة الشرقية، غير أن وصول قوى سياسية تلتفت حتى اليوم لمراعاة مصالح الغرب الذي يعاني إرهاصات أزماته الجذرية والعميقة، دون التفات إلى مصالح وإمكانيات القوى المنتجة فيها، والتي ما فتِئت تنتفض دون امتلاك للأدوات المعرفية الأصيلة التي تهيئ أسباب نصرها، كانتفاضتها في 2010، حَال دون إنجاز المهام الوطنية الكبرى التي تضمن الاستقلال السياسي الاقتصادي الاجتماعي واقتلاع جذور وأسباب التوترات الاجتماعية.
خارج التيار
ورغم أنّ البرامج الانتخابية المقدمة من المرشحين حتى الآن، تبدو في معظهمها إنشائية ولا تعكس وجود نوايا فعلية بإحداث تحولات جدية ضمن المشهد العام التونسي، فإنّ النقاط الأولية التي ظهرت لدى بعض المرشحين اليساريين، وعلى رأسهم حِمّة الهمامي، يمكن أنْ تبشر في حال تعزيزها بنقل المعركة حول الرئاسة إلى خطوة أولية ضمن المعركة الاقتصادية الاجتماعية، التي لم توضع بعد على السكة بوصفها المعركة الأساسية.
في بيانه الأول لدى تقدمه بأوراقه للترشح للانتخابات الرئاسية، أعلن حِمّة الهمامي، مرشح الجبهة الشعبية التونسية، ومرشح فعاليات مختلفة شبابية، برنامجاً من خمس نقاط، النقطة الأولى فيه، هي: الحفاظ على الثروة الوطنية وإعادة النظر بما في ذلك إلغاء كل الاتفاقيات الاقتصادية غير المتكافئة التي وقعتها تونس خلال السنوات والعقود الماضية.
ورغم الانقسام الواضح ضمن الجبهة الشعبية التونسية، بوصفها أكبر ممثلي اليسار في تونس، إلا أنّ بداءة البرنامج التي أعلنها الهمامي، ربما تبشر بوجود رؤية متبلورة بحدود جيدة خلف تلك البداءة، وظيفة الأيام القادمة أن تكشف عنها بتفصيل أكبر. وإلى ذلك الحين، يبقى الأمل قائماً بأنّ الحركة العمالية التونسية التي أظهرت في مراحل متعددة من التاريخ التونسي قدراً متقدماً من الانضباط والتكافل والوعي، ستستطيع ضمن هذه التطورات أن تدفع إلى الواجهة المعركة الاقتصادية الاجتماعية حول هوية تونس المستقبلية، حتى وإنْ لم تتمكن من الفوز بمنصب الرئاسة ضمن الانتخابات الحالية..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 926