الناتو... ليستكمل وظيفته ويستقيل
إذا كانت الولايات المتحدة مُنقسمة فيما بينها وتتراجع سياسياً واقتصادياً، وإذا كان الاتحاد الأوروبي يتفكك شيئاً فشيئاً، وإذا كانت الأزمة الرأسمالية مستمرة في تعمّقها الذي لا حل له، فـ«حلف الشمال الأطلسي» له من الحصّة نصيب، كأداة تفقد جدواها، لتكون في نهاية الأمر عبئاً على حامليه التخلص منه، ولكن وحتى الوصول لتلك اللحظة التي يفقد بها «الناتو» وظيفته نهائياً، تسعى الدول الأعضاء للاستفادة فيما تبقى من وقتٍ لحلفهم عبر عدة محاور وكُل حسب مصلحته...
تأسس «الناتو» عام 1949 مع بدايات التغيّر في ميزان القوى الدولي في حينه مؤدياً وظيفة «دفاعية» ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه، وأخرى ريعية عبر الذريعة ذاتها... لكن اليوم، ومع التغيّر في ميزان القوى الجديد، يتخبط حلف الشمالي الأطلسي في كيفية انهياره عاجلاً أم آجلاً.
فإذا كان لزمن الحروب العالمية خطرٌ يستدعي ويُبرر وجود تحالفات عسكرية من هذا النوع والشكل، فاليوم ومع تطور الأسلحة النووية كمّاً ونوعاً بات من غير المنطقي لأحدٍ استمرار قيامه بأي تصعيد عسكري على الصعيد الدولي، الأمر الذي تُدركه جيداً جميع الدول بما فيها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفاؤهم، بالإضافة إلى عدم وجود تهديدٍ أمني أو عسكري من دول الشرق، ليسعى «الناتو» جدياً إلى التوسع والانتشار بذرائعه السابقة، إذاً.. ما كُل هذا الضجيج منذ سنتين على توسع الأطلسي شرقاً؟ وما طبيعة خلاف ترامب مع الدول الأعضاء؟
أولاً: تنظيم وتقاسم الخسائر
تحاول الدول الأعضاء تنظيم حجم خسارتها اقتصادياً برمي وزر ومخلفات ديون الحلف بعضهما على بعض، الأمر الذي بدأ من الولايات المتحدة كونها أكبر المتأزمين بطبيعة الحال، بطلب ترامب زيادة التمويل على الحلف وتسديد الديون المترتبة على الدول الأعضاء لواشنطن، ورفع نسبة الميزانية المخصصة من إجمالي الناتج الوطني المحلي من هذه الدول، ليس فقط على السنين القادمة بل على كُل السنين السابقة، نظراً لامتلاك واشنطن أكبر وزنٍ عسكريّ فيه، وقد «قامت بحماية جميع الدول الأعضاء منذ تأسيسه» على حد تعبير ترامب، وأنفقت أكثر من غيرها على الحلف.
في المقابل هنالك لإيطاليا رأيٌ مُخالف: فقد صرّح وزير خارجيتها ميلانسيزي يوم الثلاثاء 24 تموز بأن روما تُنفق حالياً 1.15 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي على الشؤون العسكرية، وسوف تُقلل من هذه النسبة أكثر في العام القادم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المُتفق عليه من دول الأعضاء إنفاق 2% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي على الشؤون العسكرية، وقد طلب ترامب رفع هذه النسبة إلى 4% ليتلقى انتقادات كُبرى على مقترحه... وقامت بولندا قبيل انعقاد قمّة الناتو بعرض نحو 2 مليار دولار على واشنطن بمقابل إقامة الأخيرة قاعدة عسكرية دائمة على أراضيها...وقد تعهّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً بوفاء باريس التزامها بدفع حصتها المقدرة بنحو 2% من إجمالي الناتج المحلي، ولكن بحلول العام 2024، ودعا الحلف عقب ختام قمته في بروكسل إلى عدم الاندفاع نحو التوسع... وقام ترامب أيضاً بالتصيّد: على ألمانيا بتسديد التزاماتها عوضاً عن إعطاء حصّة من اقتصادها لروسيا، بإشارة منه إلى اتفاقات برلين وموسكو الاقتصادية، وتحديداً مشروع «السيل الشمالي2».
ثانياً: زيادة النهب
بتوسيع الحلف
على طول الخط كانت الدول الرئيسة دائمة العضوية: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، المستفيد الأكبر من مجمل التمويل الآتي على الحلف من الدول الأعضاء الآخرين وعلى حساب شعوبهم بذريعة الحماية والدفاع، وكان ولازال يسعى الحلف إلى ضمّ أعضاء، ليتم مؤخراً ضمّ الجبل الأسود ومقدونيا إلى الحلف بعد إعلان الأخيرة عن نفسها بجمهورية مقدونيا الشمالية، دولةً مستقلّةً تماماً عن اليونان...ما يعني تقليص في نسبة الخسائر على حساب شعوب دول الأعضاء.
ثالثاً: مهمّة إعلامية تقليدية
من جهة ثالثة: يقوم حلف الناتو اليوم بمهمة إعلامية يتستر عبرها على تراجع وخسائر الدول الأعضاء الرئيسة فيه بدعايات التوسع والانتشار السابقة، ويُخفي عبره مجمل الخلافات والابتزازات المتبادلة في محاولة صُنع وهمٍ بالقوة والاتحاد فيما بينهم بدواعٍ سياسية، مثلها كمثل الآلية والإعلام الأمريكي في الآونة الأخيرة، ولكن هذا لا ينفي تأثير مثل هذه الإجراءات على الحدود الروسية لما تحمله من استفزازات بطابع عسكري رغم شلل الحلف، ليستدعي الردّ من الطرف الروسي... فقد رأى المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن «توسع حلف شمال الأطلسي «الناتو»، على حدود روسيا لا يعزز الأمن والاستقرار». وأكد أن «توسع البنية التحتية للناتو بشكل تدريجي على حدود روسيا، لن يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار، وإنما على العكس سيدفع روسيا للمواجهة».
مصير الناتو المُقفل
إن تغيّر التوازنات والعلاقات الدولية الجديدة والضغط الأمريكي والخلافات بين الدول الأعضاء، بالإضافة إلى ما نتج عن قمّة هلسنكي التي جمعت الرئيسين بوتين وترامب بالحد من انتشار الأسلحة، وتصريحات ترامب في الآونة الأخيرة حول عدم رؤيته أيّ تهديد من روسيا، كلها تُناقض ما يُزعم حول قوة الحلف، وتهيّئ الأرضية لتفككه، ليبقى كغيره من المؤسسات الشبيهة، العسكرية أم الاقتصادية، يذكره التاريخ كنقطة عفنة في فضاء سياسي قديم توفي.