واشنطن تذرف النفط من عيونها
في خضم تراجع الولايات المتحدة مع حلفائها دولياً تتزايد خسائرها وتتزايد التهديدات بخسائر أُخرى قادمة، لتعمل ما استطاعت على التخفيف من حدّتها، ولها من تجارة النفط العالمية أكبر تهديد كونها أكبر مستهلكٍ له.
مع تصاعد دولٍ أخرى سياسياً واقتصادياً، بما يعنيه من تغيّر في الميزان الدولي، تتغير خريطة التجارة العالمية بخطوطها ومراكزها تدريجياً وفقاً للأوزان الجديدة، التي تعمل واشنطن ما استطاعت على كسب أقل وزنٍ منها فضلاً عن انعدامه، وفي هذا السياق تحاول واشنطن تقويض الاقتصاد الإيراني المُرتبط إقليمياً مع الدول المجاورة كتركيا، وغربياً مع أوروبا، وشرقياً مع الصين والهند وروسيا بشكل أساس.
النفط الإيراني هدفٌ وذريعةٌ في آنٍ واحد
ما إن تشمّ واشنطن رائحة نفط حتى تمتصّ مصدّره، هذا ما اعتدنا رؤيته منذ منتصف القرن الماضي، سواء عبر اتفاقات تقوم على توافقٍ في المصالح كعلاقتها مع دول الخليج، أو بضغوطات سياسية وعسكرية تصل حد الاحتلال والقصف كأفغانستان والعراق وليبيا فضلاً عن أهدافها الأخرى بخلق هكذا أزمات وحروب. إلّا أنّ مصالح إيران المتعارضة وواشنطن وعلاقاتها دولياً ووزنها إقليمياً شكّل عائقاً على مدى عشرات السنين أمام مطامع الأمريكي فيها، وجُلّ ما استطاع هو: أنّ يقوّض حركة إيران الاقتصادية ويبطئ من نموّها، وصولاً إلى فترات سابقة قريبة، والتي لم يعد لعقوباته أثرٌ على إيران التي اكتسبت المناعة، بل على تلك الدول المرتبطة بمصالحها معها سواء سياسياً أو اقتصادياً، بمعنى: عقوبات واشنطن لا تستهدف إيران نفسها، بل تلك الدول المرتبطة معها للحدّ من هذا التغيّر في خطوط خريطة التجارة الدولية... إلا أنه حديثاً باتت تلك العقوبات موجهة بشكل مباشر لتلك الدول والشركات الأوروبية.
السعودية تضاعف إنتاجها
بسياق عرقلة تصدير النفط الإيراني، طلب ترامب من السعودية زيادة إنتاجها نحو مليوني برميل في اليوم، الأمر الذي تمت الموافقة عليه في محاولة لجعل السعودية تحل محل إيران في السوق النفطية وكسر العلاقات الاقتصادية الإيرانية، كذلك تعويض النقص في إنتاج النفط العالمي نتيجة للضغوطات الأمريكية على فنزويلا والاضطرابات الجارية في ليبيا، ما أوجد رداً عند الإيرانيين وصل حد التهديد بإغلاق مضيق هرمز إذا اقتضت الضرورة، فقد أكد محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني بتصريحات لوسائل إعلام محلية أنه: «إذا لم تتمكن إيران من تصدير نفطها عبر مضيق هرمز بسبب ضغوط أمريكية، فلن يُسمح لأية دولة أخرى في المنطقة بذلك».
مضيق هرمز
يعد أحد أهم الممرات المائية في العالم وأكثرها حركة فثلث الإمدادات التجارية النفطية الدولية تمر عبره، وبحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في عام 2017 وصلت صادرات النفط المنقول بحرياً عبر المضيق إلى 2,17 مليون برميل يومياً، فيما وصلت خلال النصف الأول من 2018 فقط إلى 4,17 مليون برميل يومياً، ويأتي النفط عبره من إيران والسعودية والكويت والإمارات والعراق- 88% من صادرات السعودية النفطية تمر عبره- كما أن غالبية إنتاج قطر من الغاز المسال يمر عبره أيضاً. وقد شهد المضيق تهديدات مماثلة في السابق، وفي عام 1988 جرت معركة استمرت يوماً كاملاً عندما ردت الولايات المتحدة على استهداف إيران سفينة «USS Samuel B. Roberts» الأميركية، وفي 2008 صرّح قائد الحرس الثوري الإيراني أن إيران ستفرض سيطرتها على المضيق في حال تعرضها لهجوم عسكري، ما أدى إلى ردع واشنطن عن استمرار استفزازها، وفي عام 2012 هددت طهران بغلق المضيق رداً على العقوبات الأميركية والأوروبية التي استهدفت عائداتها من النفط على خلفية برنامج إيران النووي، وفي أيار 2015 أطلقت سفن إيرانية النار على ناقلة نفط سنغافورية وصادرت سفينة شحن، لكنْ حتى الآن لم تستدعِ الأمور أن تنفّذ إيران تهديداتها حول المضيق.
الصين تدعو الأطراف المعنية إلى حلّ وسط
دعا تشين شاو دونغ، مساعد وزير الخارجية الصيني الدول المعنية إلى بذل المزيد من الجهد لضمان الاستقرار في المنطقة، حيث قال: «أجرت الصين اتصالات مكثفة مع الدول العربية في إطار مساعي إحلال السلام في الشرق الأوسط وما يحيط بإيران». وتابع: «ترى بكين أنه على الدولة المعنية بذل المزيد من الجهد للإسهام في السلام والاستقرار في المنطقة والمشاركة في حماية السلام والاستقرار هناك. ستواصل الصين لعب دورها الإيجابي والبناء في هذا الاتجاه».
واشنطن...نحو مزيد من العزلة
كان ترامب قد طلب مؤخراً من الحكومات والشركات الدولية وقف جميع وارداتها من النفط الإيراني، بما فيها الصين والهند أكبر مستوردي النفط من طهران، وبالفعل أعلنت دول عدة تجاوبها مع طلب ترامب، مثل: اليابان وكوريا الجنوبية.
تزامن هذا مع اجتماع أطراف «الاتفاق النووي» الإيراني في فيينا جددوا فيه التزامهم به بشكل «فاعل وتام»، حيث أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف: أن « الجميع ملتزمون بضمان مصالح إيران، ما يعني أن الولايات المتحدة معزولة».
من جهة أخرى أبدت إيران استعدادها لاستئناف المقايضة والحصول على سلع مقابل صادراتها النفطية لتجاوز العراقيل التي تضعها عقوبات واشنطن أمام وصول طهران للنظام المالي العالمي.
وفيما يبدو أن واشنطن تسعى من خلال الورقة الإيرانية إلى ما هو أبعد من استهداف إيران ذاتها، أي: إلى ممارسة الضغوط وفرض العقوبات على أطراف عدة بما فيها شركات دولية، ودول حليفة كأوروبا، أو دول منافسة كالصين، في محاولة لتنظيم تراجعها الاضطراري، فإن هذا السلوك لن يفضيَ سوى إلى مزيد من العزلة الأمريكية المتنامية على خارطة العلاقات الدولية.