المجلس الوطني والحراك الشعبي... مفارقات فلسطينية

المجلس الوطني والحراك الشعبي... مفارقات فلسطينية

خلال الأسبوع المنصرم، شهدت الساحة الفلسطينية حدثين محوريين، شكلا في تزامنهما تكثيفاً للحالة الفلسطينية بالعموم، والتي تقول: إن الفضاء السياسي القديم قد استنفذ دوره، بقواه وأدواته الحالية، وأن الواقع والضرورة يدفعان اتجاه ولادة فضاء سياسي جديد من قلب الشعب المنتفض، بأدوات وقوى جديدة.

بينما عكس انعقاد «المجلس الوطني الفلسطيني» في رام الله، بدورته الـ23، درجة عالية من الانقسام والتخبط، على مستوى القيادات السياسية الفلسطينية، عبّرت فعاليات «مسيرة العودة» في قطاع غزة، والمستمرة للأسبوع السادس على التوالي، عن درجة عالية من الوحدة والتصميم على مستوى الحراك الشعبي.
جمعة عمال فلسطين
في استمرار لفعاليات «مسيرة العودة الكبرى»، التي تشكل حالة غضب شعبي على ممارسات الاحتلال، وتمادي الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والحديث عن «صفقة القرن»، حمل يوم الجمعة 4 أيار الحالي شعار «جمعة عمال فلسطين» تقديراً لعمال فلسطين في يوم العمال العالمي، وهو ما يحمل معه الكثير من الرمزية والدلالات، فعمال فلسطين تتضاعف معاناتهم بفعل ممارسات الاحتلال، ومعاناة عمال غزة تحديداً يضاف إليها الحصار، والعقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينية.
إن رفع شعار يحمل اسم عمال فلسطين، على فعاليات الحراك الجاري، هو في جوهره تعبير حقيقي عن التجاوز الشعبي لمفردات الانقسام التي تفرضها القوى السياسية، فالحراك الجاري الذي لم يحمل شعارات أو أعلاماً فصائلية، يكرم عمال فلسطين، الذين أيضاً يجمعهم وضع اقتصادي ومعيشي عابر للانقسامات الفصائلية. كما أن العمال هم شريحة واسعة وجزء أساس من الشعب المنتفض في غزة على الحصار والحدود والتضييق الاقتصادي والاجتماعي، الذي قد يطال جميع أشكاله بما فيها ممارسات السلطة الفلسطينية.
إبداع المقاومة
من جهة أخرى، يستمر الفلسطينيون في ابتكار أساليب جديدة للمقاومة، التي تشكل مصدر قلق حقيقي لدولة العدو، حيث ذكرت صحيفة «إسرائيل اليوم» إن الفلسطينيين في غزة ابتكروا طريقة جديدة تشكل تهديداً أمنياً جديّاً، تتمثّل بإطلاق طائرات ورقية محملة بمواد قابلة للاشتعال تجاه مستوطنات محيطة بالقطاع، مما أدى إلى إحراق مئات الدونمات من الأراضي الزراعية والأحراش التي استولى عليها الكيان الصهيوني من الفلسطينيين. واعترف جيش العدو بخسارة اثنتين من طائراته المسيرة التي تقوم بالاستطلاع على الحدود مع قطاع غزة، وذكرت صحيفة «يديعوت آحرونوت»، أن الطائرتين أسقطهما المحتجون على الأرجح بواسطة المقاليع.
كذلك تمكن العشرات من الشبان الفلسطينيين، مساء يوم الجمعة الماضي، من اقتحام السياج الأمني المحيط بقطاع غزة، والوصول إلى موقع كرم أبو سالم العسكري وإضرام النار فيه، مما دفع بحكومة الاحتلال إلى استقدام تعزيزات عسكرية إلى المكان وإطلاق النار على الشبان، وإصابة عدد منهم بجروح مما دفعهم إلى مغادرة الموقع.
وهو ما يؤكد أن لا حدود أمام إرادة الشعب، وهو ما أثبته الفلسطينيون تاريخياً، فابتكار الطائرات الورقية الحارقة، إنما يعني القدرة على تطوير أدوات المقاومة ضمن الإمكانات المتاحة، واقتحام السياج الأمني يعني أن حدود الاشتباك مفتوحة، وقابلة للتطور.
اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني
في الجانب الآخر، وعلى الصعيد الرسمي الفلسطيني، عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته الـ23 يوم الاثنين 30 نيسان، وهي الدورة العادية الأولى منذ 22 عاماً، تحت مسمى «دورة القدس، وحماية الشرعية الفلسطينية»، والهدف المعلن للاجتماع هو وضع استراتيجية للرد على قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخاصة بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وخطط نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة.
ولكن الاجتماع وعلى خلاف الحراك الشعبي، عكس درجة عالية من الانقسام بين المكونات السياسية الأساسية، حيث قاطع الاجتماع عدد من القوى السياسية من بينها حركة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية». وطالت الانتقادات موقع وتوقيت عقد الاجتماع، حيث اعتبر البعض أن انعقاد الاجتماع في الضفة الغربية سيؤدي إلى استبعاد فلسطينيين سيواجهون خطر اعتقال سلطات الاحتلال لهم، أو رفض دخولهم إذا حاولوا الحضور. فيما دعت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» إلى تأجيل الاجتماعات لإتاحة مزيد من الوقت لجهود المصالحة بين «فتح» و«حماس» وتخطي الانقسامات بما يضمن مشاركة أوسع فيها.
هنا يمكن القول: إن إصرار السلطة على إجراء اجتماع «المجلس الوطني»، وهو السلطة العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، في الوقت الذي لا يزال فيه ملف المصالحة متعثراً، دون الوصول إلى توافقات حول انعقاده مع الفصائل الأخرى، يعني ترسيخ الانقسام، وزيادة في تراجع دور المنظمة، والحكم مسبقاً بالفشل على الهدف المعلن من الاجتماع، وهو: وضع إستراتيجية لمواجهة التحديات القائمة، طالما أن الإستراتيجية لن تحظى بدعم جزء كبير من مكونات الشعب الفلسطيني.
وفي المحصلة، وبينما أعاد المجلس انتخاب محمود عباس رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة، لم ينتج عن الاجتماع استراتيجية واضحة، بل تضمن البيان الختامي مواقف عامة وفضفاضة، وقرارات تكررت مراراً ولم تُنفذ على أرض الواقع. ورغم أن عباس أكد رفضه لما يسمى «صفقة القرن»، بالقول: «لن نقبل صفقة ترامب، ولن نقبل بأمريكا أن تكون وسيطاً للسلام وحدها، ولن نقبل بما تريد أن تقدمه (الصفقة) في منتصف الشهر المقبل.. في حال أرادت أمريكا أن تقدم شيئاً، تقول نحن مع خيار حل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة لنا، أما غير ذلك فلن نقبل به».
فإن هذا وحده لن يكفي ولن يفضي إلى نتيجة، إذا لم يتم تقوية الداخل الفلسطيني، من خلال إنهاء الانقسام أولاً، ودعم الحراك الشعبي وتثميره سياسياً من ناحية أخرى، وهو ما يبدو أن السلطة وكذلك الفصائل الفلسطينية، استنفذت إمكانية القيام به، وجعلت الشعب الفلسطيني يفقد الثقة بها، مما سيدفعه في نهاية المطاف إلى تجاوز كل تلك القوى، ليولد الجديد من قلب الحركة الشعبية.
يشكل اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الأخير مرآة للانهيار السياسي الفلسطيني، بينما يشكل الحراك الشعبي الجاري نموذجاً للإرادة الشعبية، في لحظة تاريخية تتغير فيها الموازين الدولية، لمصلحة الشعوب، أي: أن تغيراً على صعيد الداخل الفلسطيني، يجري بالتوازي مع تغير تاريخي على المستوى العالمي، وهو ما يخلق جميع المقدمات الضرورية لهزيمة الكيان الصهيوني.