فلسطين... إنها بمسافة الثورة!
ما يجري اليوم رداً على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، إنما يعيد التأكيد على حقيقية أصيلة، هي: أن طريق المساومات لم ولن يؤدي إلى فلسطين، فهي ليست بالقريبة ولا بالبعيدة، بل بمسافة الثورة، ثورة الشعب على المحتل، وثورة القوى الوطنية على التوزان الدولي القديم ومفرزاته.
تتوالى ردود الأفعال العربية والدولية، على المستويين الشعبي والرسمي، فالمواجهات في فلسطين لم تهدأ منذ إعلان ترامب قراره، بالإضافة إلى التحركات الرسمية مثل: عقد قمة عربية استثنائية من أجل القدس، وواحدة طارئة لـ«منظمة التعاون الإسلامي». إن تجاوزات دولة الاحتلال ليست بالجديدة، وتمادي واشنطن في محاولة فرض خياراتها على الشعوب ليس بالسابقة، كما أن الحراك الرسمي العربي بشأن فلسطين، وإصدار بيانات الشجب والتنديد، ليس بالطارئ، فما الذي يمكن اعتباره جديداً اليوم؟
أفقٌ للحل بعيداً عن الأمريكي
أصبح الحديث عن أن الولايات المتحدة هي وسيط غير نزيه في عملية السلام أمر واقع، تردد على مستوى الخطاب الرسمي مؤخراً بشكل غير مسبوق، حيث لم يعد من الممكن لأحد أن يساجل في هذا الأمر دون أن يضع نفسه خارج التاريخ، وبالتالي، فإن خروج واشنطن من العملية السياسية، وأية تسوية محتملة للقضية الفلسطينية، يعني: أن الكيان الصهيوني قد خسر داعمه الأساسي والتقليدي، وهو يعني أيضاً: إعلان الموت المسبق لـ«صفقة القرن» الأمريكية الجديدة عملياً، هذا في حال وجودها أصلاً. الأمر الذي سيزيد من عزلة الكيان وتخوفاته في هذا الشأن، ويفسح الطريق لمرجعية دولية جديدة غير منحازة لتكون داعماً في استعادة الحقوق.
هنا يمكن القول أيضاً: إن الظروف أصبحت ناضجة للتحلّل من أية اتفاقيات مع الكيان الصهيوني، تم التوصل إليها سابقاً برعاية أمريكية، وما ترتب عليها من التزامات سياسية واقتصادية وأمنية مع دولة الاحتلال، مثل: اتفاقية «أوسلو» وغيرها، وهو مطلب شعبي رُفع على شكل شعارات في الاحتجاجات الأخيرة، وطالبت به حماس على لسان، اسماعيل هنية، في مهرجان ذكرى تأسيسها في 14 كانون الأول الحالي، بينما ألمح الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى إمكانية القيام بهكذا خطوة في القريب العاجل خلال خطابه في قمة «منظمة التعاون الإسلامي». وهو ما ينسحب أيضاً على المستوى العربي، ليشمل اتفاقيات «كامب ديفيد» والعلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال وأي شكل من أشكال التطبيع.
الرد الفلسطيني... مواجهة الاحتلال
لم يمض على خطاب ترامب ساعات حتى جاء رد الشعب الفلسطيني مباشراً وموحداً، مواجهة الاحتلال هي جوهر القضية. الفلسطينيون قالوا كلمتهم: القدس لنا رغماً عن الأمريكي وغيره.
مواجهات وإضرابات عمّت فلسطين، في القدس والضفة الغربية وغزة، في ظل دعوات أطلقتها حركة «حماس» إلى انتفاضة جديدة في وجه الاحتلال، ودعوة مختلف القوى السياسية الفلسطينية إلى إضراب عام، دفعت جيش الاحتلال إلى إعلان حالة الاستنفار القصوى. ومع إعلان يوم الجمعة 8 كانون الأول يوم الغضب، انطلقت مسيرات لآلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، لتشهد مناطق متفرقة تظاهرات واشتباكات مع قوات العدو، ولتتجدد الدعوات إلى يوم غضبٍ جديدٍ، يوم الجمعة 15 كانون الأول.
وفي السياق ذاته، شهد الحراك الشعبي في فلسطين تطوراً من خلال اعتبار المؤسسات الأمريكية كافةً العاملة في فلسطين هدفاً للشباب المنتفض، حيث دعا الحراك الشبابي من أجل القدس في بيان مشترك باسم «الحراك الشبابي من أجل القدس، اللجان الشعبية لمواجهة الاحتلال، وائتلاف شباب الانتفاضة» إلى إغلاق تلك المؤسسات كافةً. وأوضحت المجموعات، أن كافة المؤسسات الأمريكية العاملة في مناطق السلطة، وخاصةً مؤسسة «USAID» وأية مؤسسة فلسطينية تتلقى الدعم من هذه المؤسسات مستهدفة من قبل الشباب الفلسطيني، وعليها إغلاق أبوابها طوعاً والرحيل من أرض فلسطين قبل أن يغلقها الشباب الفلسطيني بقوة الجماهير الغاضبة، كما وصف البيان موقف السلطة الفلسطينية بالخجول والذي لا يرتقي لمستوى الحدث.
إن حصرية تقرير مصير القدس هي بيد الشعب، ومن الواضح أن هذا القرار لن يمنح الكيان الصهيوني إلّا مزيداً من الضغط الداخلي، ليترافق مع الضغط الخارجي، الناجم عن التراجع الأمريكي.
فرص التوازن الجديد
إن القضية الفلسطينية اليوم، لا يمكن لها أن تكون بمعزلٍ عن التوازن الدولي الجديد المتبلور، ومساره في إطفاء ما أشعله مشروع الفوضى الأمريكي حول العالم، وحل الأزمات بمنطق الدفع باتجاه تطبيق القرارات الدولية التي تم التوافق عليها، والمثال الأوضح على ذلك هو: طريقة التعاطي مع القرار الدولي 2254 الذي يخص الأزمة السورية، والذي يشكل نموذجاً لحل الأزمات.
هنا تجدر الإشارة إلى دخول مصر على خط القضية الفلسطينية كلاعب أساس ظهر وضوحاً في رعاية عملية المصالحة مؤخراً، مصر التي تشهد تحولاً في سياساتها وتحالفاتها الدولية من خلال تعميق العلاقات والتعاون مع روسيا سياسياً واقتصادياً، وقد كان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، قد توجه إلى القاهرة يوم الاثنين 11 كانون الأول الحالي، تلبية لدعوة من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لمناقشة التطورات الأخيرة، في وقت تزامن مع زيارة الرئيس الروسي بوتين إلى مصر. كما تشير الكثير من التحليلات: أن الوقت قد حان لدخول روسيا على خط القضية الفلسطينية، على أنها القوة البديلة المناسبة للعب هذا الدور، كونها أثبتت بأنّها لاعب دولي يمكن الوثوق به، وذلك عبر اعتمادها مبادئ القانون الدولي والسيادة الوطنيّة في التعامل مع الأزمات.
إن تبدل موازين القوى العالمية، وتراجع مستوى هيمنة دول المركز الرأٍسمالي الغربي، الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، يعني بالضرورة تراجع توابعها وأدواتها في كل مكان، وهذا المنطق ينطبق بالضرورة: على الكيان الصهيوني، الذي تم زرعه في منطقتنا كقاعدة عسكرية متقدمة، لخدمة أهداف محددة أرادتها تلك الدول في مرحلة التقدم، وفي مرحلة التراجع، من المنطقي والموضوعي أن يحدث العكس، حيث ستعمل تلك الدول على رمي الأحمال الزائدة، ومن ضمنها الكيان الصهيوني.
إن ما يريده ترامب لا معنى له، في عالم يتغير بالكامل، فزمن الأمريكي قد ولّى، وحان الوقت لإرادة الشعوب أن تقول كلمتها، ضمن شكل جديد من العلاقات الدولية، تقوده دول شرق صاعدة. لذلك من المرجح أن تستمر المواجهات مع العدو في فلسطين، لتتحول إلى انتفاضة شعب لم تنل سنوات الاحتلال السبعون من عزيمته على التمسك بالمقاومة كخيار، مدركاً بتجربته الطويلة، وبما تفرضه الوقائع باستمرار، أن هذا الخيار هو الضامن الوحيد للحرية واستعادة الحقوق.