مصر تصارع بين عالمين...قديم وجديد
يبدو جلياً التطور الشامل للعلاقات الروسية_ المصرية إيجاباً في السنوات الثلاث الماضية، بعد ركود دام قرابة لأربعة أو لخمسة عقود ماضية، والتي عرفت نقطة علام أساس، هي: اتفاقية «كامب ديفيد» المشؤومة، بما حملته لمصر وللمنطقة عموماً، لكن ما هي سمات هذا التطور؟ وما هي تناقضاته مع التوجهات التقليدية السابقة لمصر اقتصادياً وعسكرياً؟
من الصعب الحديث عن تحولات يسيرة وعميقة في شبكة العلاقات الاقتصادية والعسكرية، عندما يتعلق الأمر بدولة مركزية في المنطقة وحتى على مستوى العالم مثل: مصر، وحتى لو ظهرت مؤشرات على وجود إرادة سياسية ذاتية للقيام بتلك التحولات، فإنها وحدها لا تكفي موضوعياً، حيث إن تلك التغييرات مرتبطة عند التطبيق ببنية وهيكلية جهاز الدولة، وطواعيته في التلاقي مع الرؤية السياسية العامة لمصر المستقبل.
طريق التغيير الطويل
قبل الحديث عن بعض التعقيدات داخل جهاز الدولة المصري، من الضرورة بمكان التأكيد والجزم بضرورة التغييرات العميقة الشاملة لمصر، نظراً إلى التناقضات الداخلية المتفاقمة، وإلى كم الاستحقاقات الاقتصادية_ الاجتماعية والأمنية_ العسكرية المتراكمة، والواصلة إلى حد الخطر الحقيقي، الذي يهدد البلاد بظواهر فوضى أكبر وأعقد مما شهدته في السنوات الأخيرة. بوادر هذه الحالات أو «البروفة» الأولية لها، ظهرت أثناء موجة الحراك الشعبي الأولى ضد حكم الرئيس محمد حسني مبارك، وموجة الحراك الثانية ضد حكم «الإخوان المسلمين»، حيث اضطر جهاز الدولة إلى التجاوب مع عموم الشارع المصري، واستلام زمام المبادرة في الحالتين، خوفاً من انزلاق البلاد نحو الفوضى الناتجة عن الانقسامات السياسية الحادة. يترافق ذلك مع الظروف الخارجية الأشبه بحروب عالمية مصغرة، بدأت مع الأزمة الأوكرانية، ووصلت محيط مصر في ليبيا واليمن وسورية.
انطلاقاً من ضرورة التغيير الجذري هذه، يمكن في البداية مقارنة المؤشرات الاقتصادية للميزان التجاري المصري مع كل من الاتحاد الأوروبي من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
حسب وزير التجارة والصناعة المصري، طارق هابيل، فإن الاتحاد الأوروبي يعد المستثمر الأول في مصر بنسبة 75% من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر خلال الأعوام الماضية، بالمقابل يتلقى الاتحاد الأوروبي 22,7% من الصادرات المصرية، ويقدر التبادل التجاري بين مصر والاتحاد الأوروبي بحوالي 27 مليار يورو.
بينما لا يتجاوز حجم التبادل التجاري بين مصر وروسيا 4 مليارات دولار، وبين مصر والصين 5,2 مليار دولار، أي: أن التبادل التجاري المصري مع الاتحاد الأوروبي هو تقريباً ضعفاً مثيله مع روسيا والصين.
في المقابل، فإن التعاون العسكري المصري مع الغرب، وتحديداً مع فرنسا، يأتي كصفقة اعتراضية، من حيث نوعها وتوقيتها، أمام سلسلة التعاون العسكري المصري الروسي المتزايد، الذي يبدو واضحاً كتوجه عام في السياسات المصرية، هنا يمكن فهم تلك الصفقات مثل: «ميسترال» و«رافال» من الناحية السياسية، على أنها جزء من توجهات مازالت قوية داخل جهاز الدولة المصري، اعتادت على نمط من العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع دول الغرب، وتعارض بالضرورة إعادة تكييف جهاز الدولة مع ضرورات التنمية والتعاون على مستوى العالم.
سمات التعاون مع الشرق
هذه التعقيدات داخل جهاز الدولة المصري لم تمنع الانطلاقة الفعلية نحو علاقات أوسع على المستوى الدولي، والأهم مع روسيا، لكن سمة هذه العلاقات، على أهميتها، أنها تميل أكثر للتعاون العسكري، أو إلى تعزيز البنى التحتية، وتحديداً مشاريع الطاقة الكبرى.
هذه القطاعات المتعاون عليها تتسم بمركزيتها من حيث القرار السياسي، وبالتالي سهولة تمريرها والشروع بتنفيذها بشكل عام، لكن الحديث عن الاستفادة من التجهيزات الصناعية والخبرات العلمية في قطاعي الزراعة والصناعة، ما تزال أقوى مع الغرب، وهذه القطاعات هي عملياً ما تنعكس مباشرة على المستوى المعيشي، ونسب التشغيل للمواطنين المصريين، دون إغفال أهمية التعاون في مشاريع البنى التحتية الكبرى والتسليح، الذي يجري على قدمٍ وساقٍ بين الجانبين الروسي والمصري.
لماذا تجب مقارنة توجهات مصر الاقتصادية بين الشرق والغرب ؟
لنأخذ مثالاً: مشروع الضبعة النووي فالمشروع يمول بقرض روسي قيمته 25 مليار دولار يسدد على مدة 22 عام بفائدة غير مركبة تبلغ 3%، أي: أن مصر ستدفع لروسيا ما يقارب 40 مليار دولار، مقابل صافي أرباح 264 مليار دولار، ولن يتم تسديد أي قسط قبل تشغيل المحطة النووية ودخول عوائدها إلى الخزينة المصرية. هذا النوع من المشاريع لم تحظَ به مصر طوال عقود من التعامل مع الغرب والولايات المتحدة، فحتى عقود التسليح مثالاً مع روسيا، تتطور اتجاه عقود تكنولوجيا مشتركة لتجميع الدبابات محلياً في مصر، كما هو الحال بالنسبة للطراز تي-90، وهو ما أعلن عنه الجيش الروسي منتصف العام الجاري.
الغرب بمنطق الهيمنة الإمبريالية على بقاع الأرض كلها، ساهم في العقود الأخيرة بشكل أساس في إضعاف قطاع الدولة الصناعي والزراعي، فتحولت مصر إلى بلد تابع بشكل شبه كامل، وبالتالي مسألة تعميق الفرز داخل جهاز الدولة المصري، وإسناد المصلحة الوطنية داخله بالمد الشعبي، هو الضمانة الوحيدة لاستعادة المكانة المصرية إقليمياً ودولياً، وهو بالأمر الممكن نظراً للكم الهائل من الامتيازات الاقتصادية والبشرية، لكن المعيق جوهرياً لمصر قوية ومستقرة، يبقى حسم التفاضل اقتصادياً وحتى سياسياً بين غرب حمل من بين ما حمله اتفاقية «كامب ديفيد»، وبين شرق صاعد قادر فعلياً على التكامل مع مصر كواحدة من أهم أركانه ضمن عالم يتغير بالكامل.