«طهران ثانية» تلوح في الأفق
بنجاحٍ جديد، أجرت كوريا الديمقراطية اختباراً حديثاً للصواريخ الباليستية وللقنبلة الهيدروجينية، وأعلنت في الـ3 من الشهر الجاري، أنها طوَّرت رأساً هيدروجينية تتميز بقوة تدميرية كبيرة، يمكن تركيبها على الصواريخ الباليستية، مؤكدة أن «جميع مكونات الرأس الهيدروجينية صنعت في البلاد وهي سلاح ذري حراري متعدد الوظائف يتميز بقوة تفجيرية مدمرة، ويمكن تفجيرها على ارتفاعات عالية».
رغم الرفض التام الذي أبدته كلّ من الصين وروسيا للتجربة الكورية، تعتمد بيونغ يانغ على التأكيد بأنه رغم الموقف الروسي الصيني الرافض للتجربة، ولا سيما أن تداعياتها تمثلت بنشر نظام دفاع صاروخي أمريكي في كوريا الجنوبية، فإن البلدين كليهما سيدفعان سير الأمور في اتجاه مناقشة الوضع الكوري عموماً، ولن يسمحا بحدوث حرب كبيرة.
كوريا تبحث عن أمنها
بمجرد أن بيونغ يانغ قامت بإطلاق صاروخ جديد، فهي بذلك أظهرت أن ضرب قاعدة «غوام» - حيث توجد القاذفات الاستراتيجية الأمريكية- ليس مجرد خداع أو تهديد. وفي حال انتقال الصراع إلى مرحلة ساخنة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقوم وحدها بضرب المنشآت العسكرية لكوريا الديمقراطية.
وقد هدأ هذا التهديد الولايات المتحدة وخفف حدة التوتر. فالآن أثبتت بيونغ يانغ أن هذه الضربة ممكنة تماماً من الناحية الفنية. ووفقاً للمعلومات الأولية، فإن الصاروخ قد حلق نحو 2,7 ألف كيلو متر، بالقدر الذي يحتاجه للوصول إلى غوام: لقد أظهرت كوريا للعالم عزمها في إكمال ترسانة نووية كاملة التجهيز النووي بنجاح، منطلقة من أنها «الفرصة الوحيدة لجعل الولايات المتحدة وحلفائها يحترمون سيادتنا».
ردود الفعل الدولية
استغلت واشنطن الفرصة لرفع منسوب التلويح بالعسكرة في شرق آسيا، ولتعزيز حضورها العسكري هي بالذات في تلك المنطقة. فمع الساعات الأولى للإعلان عن التجربة الكورية، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الكوري الجنوبي، مون جيه-إن أنه وافق على قرار لتوريد أسلحة لسيئول «بمليارات الدولارات»، وعلى رفع القيود عن جميع الرؤوس الحربية للصواريخ المنشورة في كوريا الجنوبية.
وفي إطار التباينات الجديدة بين واشنطن وبرلين، أدانت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التجربة النووية الأخيرة لكوريا الديمقراطية، ودعا الأمم المتحدة للاتفاق بسرعة لفرض عقوبات أشد صرامة ضد بيونغ يانغ، ليتبيَّن أن الموقف الألماني - وإن كان يؤيد فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية على بيونغ يانغ- إلا أنه أقرب إلى الموقف الروسي الصيني الداعي إلى حلّ الأزمة سلمياً، دون اللجوء إلى الخيارات العسكرية.
خارطة طريق موسكو- بكين
لم يَحِد الموقف الروسي- الصيني عن ثوابته التي التزم بها منذ ما قبل التجربة الكورية الجديدة، والتي تصرُّ على ضرورة حل الأزمة في شبه الجزيرة حلاً سياسياً دبلوماسياً، ورفض أي أشكال من العمل العسكري، فضلاً عن الدفع في اتجاه فتح حوار مباشر بين الدول المعنية في هذه الأزمة، وهو ما عبَّر عنه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صراحةً خلال مؤتمرٍ صحفي عقده في أعقاب منتدى «بريكس» في الصين، والذي شدَّد فيه على أن «كوريا الديمقراطية ستأكل العشب، إلا أنها لن تتخلى عن برنامجها النووي ما لم تشعر بنفسها آمنةً»، في إشارة إلى خيبة وفشل خيار العقوبات الاقتصادية في ردع الكوريين، كما جرى سابقاً مع نظرائهم الإيرانيين وغير ذلك من دول العالم التي تخوض بهذا الشكل أو ذاك مواجهة مع الهيمنة الأمريكية العالمية.
تدفع خارطة الطريق التي تقترحها روسيا والصين المسألة الكورية عملياً إلى الحل الذي سيكون مستنداً على نحوٍ موضوعي إلى التجربة الإيرانية والاتفاق النووي الذي وضع حداً لتطوير القدرات العسكرية النووية الإيرانية (وكانت طهران تنكر – رسمياً على الأقل- أنها تضعه من بين أهدافها أصلاً) من جهة، ومن جهةٍ أخرى فتح المسار الإيراني للاستفادة القصوى من الطاقة النووية للأغراض السلمية، وبيَّن أن موازين القوى الدولية الجديدة باتت تسمح بكسر واقع التبادل اللامتكافئ بين المركز و«دول العالم الثالث» في موضوع الطاقة.
على هذه الأرضية، يمكن فهم ما أعلنه بوتين بأن روسيا لن تعترف بكوريا الديمقراطية دولةً نووية. حيث يلتزم الثنائي الروسي الصيني بالحد من انتشار الأسلحة النووية عالمياً، لكنه ليس مضطراً في سبيل تحقيق هذا الهدف لأن يفرض كوابح مجانية على تطور الدول خارج فلك الهيمنة الأمريكية. بالتالي، فإن موازين القوى الدولية تسمح اليوم للكوريين بالحفاظ على حقوقهم وعلى أمنهم وحرية خياراتهم الاستراتيجية في البقاء خارج المنظومة الأمريكية، ما يعني أن «طهران ثانية» تلوح في الأفق.
اليابان وكوريا الجنوبية
ما ينبغي فهمه في حالتي طوكيو وسيؤول هو أن تجربة بيونغ يانغ تشكِّل تهديداً جدياً لهما، حيث لا مكان في هذا التفصيل لحسابات النوايا الحسنة التي تحرص كوريا الديمقراطية على إعلانها بين الحين والآخر. وما يزيد من قلق هاتين الدولتين هو أن واشنطن - الراعية الدولية لهما حتى الأمس القريب- ورغم أنها تبدي تصعيداً ملحوظاً اتجاه بيونغ يانغ، فإنها عاجزة على نحوٍ أكثر وضوحاً عن الحفاظ على أمن هاتين الدولتين من ارتدادات تصعيدٍ محتمل. ففي أكثر الحسابات الأمريكية «حربجيةً» لا مكان اليوم للحديث عن حربٍ تتحملها الولايات المتحدة منفردةً، إنما يسودُ منطق توريط الحلفاء التقليديين، مستثمرةً في حالات الهلع الناتجة عن تنامي نفوذ خصومها في العالم.
من هذا المنطلق، تبدو منطقية اليوم التحليلات القائلة بأن عدداً من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في آسيا بات قاب قوسين أو أدنى من القيام بعملية انعطاف على صعيد الخيارات الاستراتيجية، خلافاً للتوقعات بأن التصعيد الجاري في شرق آسيا من شأنه أن يشد عصب أولئك الحلفاء ويرص صفوفهم إلى جانب الصف الأمريكي. وهنا، تبدو اليابان أكثر وضوحاً في تقاربها الجديد مع موسكو وبكين، حتى وإن كان هذا التقارب متواضعاً إلى الآن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 827