كيان عاجز يبحث عن «تكيف»

كيان عاجز يبحث عن «تكيف»

على أكثر من صعيد، تقلب حكومة الاحتلال الصهيوني خياراتها لتفادي التصاعد الحاصل في مستوى التحرك الشعبي الفلسطيني. فما بين المحاولات الرامية لامتصاص حركة الشارع وحرفها عن مسارها، والدعوات لزيادة القمع الممارس بحقها، تقف سلطات الاحتلال حائرة عند منعطف وعر. أما على الصعيد الخارجي، فتبدو جلية ليس حالة التخبط الصهيوني فحسب، بل الهلع الوجودي من متغيرات ميزان قوى الدولي.

مالك موصللي
بعد الحرب العالمية الثانية، استكملت الولايات المتحدة- بوصفها الإمبريالية حديثة النشأة في ذلك الحين- ما بدأه البريطانيون في بدايات القرن العشرين، من دعم منقطع النظير للكيان الصهيوني، وتطوير دوره الوظيفي في المنطقة، كقاعدة متقدمة للإمبريالية.
أفضى هذا الدعم إلى إنتاج تفوق ما لهذا الجسم الغريب على حساب دول المنطقة، ابتداءً من الجانب العسكري التقليدي، وصولاً إلى تطوير القدرات النووية، وهو التطور ذاته الذي طرح السؤال الساذج والسطحي حول طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ومن يحكم من في نهاية المطاف.
الظرف الدولي وكسر العظم
تحتاج الولايات المتحدة، وهي في طور تراجعها الواضح، إلى إعادة ترتيب عدد كبير من التفاصيل الحاكمة لعلاقتها مع حلفائها وأدواتها. في المقابل، يتحسس الكيان الصهيوني المؤشرات الكبرى على انخفاض مستوى التحكم الأمريكي في ملفات العالم: من الاتفاق النووي الإيراني، إلى سير حل الأزمة السورية، بالتزامن مع تطورات الحراك الشعبي في فلسطين المحتلة، لا سيما في مدينة القدس مؤخراً.
بالنسبة لكيان الاحتلال، تمثل الحقائق المذكورة آنفاً محددات مفتاحية في رسم مستقبل المنطقة لغير مصلحته. لكن، وعلى الرغم من حالات الاعتراض التي عبر عنها في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة، إلا أن كيان العدو لا يزال الأشد تناغماً مع سياسات واشنطن الحريصة، حتى الآن، على «تطمين» الكيان بصفقات يجري إبرامها في لحظات «التنازل» الأمريكي، لكن هذه التطمينات المذكورة لم تعد قادرة على لعب الدور المطلوب منها في ظل الاستعصاء الحاصل والمعبَّر عنه في الداخل الأمريكي، بانقسامٍ واضح وفجّ داخل إدارتها، وهو ما ينعكس على الكيان الصهيوني كوارثا بمعنى الثقل الذي اعتاد أن يتمتع به في المنطقة.
ممكن ومطلوب...
إن الانتهاء من «إسرائيل»، ذلك الكيان الغاصب الذي سندته الإمدادات العسكرية والتقنية والمالية الغربية طويلاً، لم يعد «حلماً رومانسياً» كما تجهد الأقلام الرجعية على وصفه، بل بات اليوم استجابة للظرف الموضوعي الجديد، الذي يفرض نفسه على الجميع، تراجعات وتقدمات ومراوحات في المكان.
موضوعياً، تدعم القوى الدولية الصاعدة اليوم آمال التحرر من التبعية الأمريكية، ومن مخلفاتها ومفرزاتها في العالم. ذلك ما يتبدى اليوم باستعادة شعار المقاومة الوطنية الشاملة نحو «التحرير الناجز» مفاعيله وواقعيته الواضحة، رغم أنه لم يفقد واقعيته يوماً..
وقد سمح ريع القوة الأمريكية حتى غزو العراق للولايات المتحدة بتحمل أعباء الكيان الصهيوني وخساراته اللاحقة في جنوب لبنان وقطاع غزة، كون الإدارة الأمريكية «كسبت» في أماكن أخرى بعقلية «شرطي الكوكب». لكن الانكفاء التدريجي للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، يدفع الأمريكيين إلى إعادة الحسابات في جدوى دعمهم الواسع للكيان الصهيوني، دون قدرة الأخير على تقديم الدرجة الكافية من التثمير، التي ترضي التيار الفاشي في الإدارة الأمريكية.
وعلى هذا النحو، تسمح العوامل المذكورة بالوصول إلى استنتاج مفاده: أن التناقض بين الولايات المتحدة التي تتراجع على المستوى العالمي، وبين الكيان الصهيوني الذي يستمد وجوده من لحظات تقدم الإمبريالية الأمريكية، من الممكن أن يصل في المرحلة المقبلة إلى حدوده القصوى. ذلك ما يدفع إلى الاعتقاد الراسخ بأن منطق المرحلة الجديدة التي تمر فيها البشرية لا يسمح بالبحث عن سبل مقاومة العدو الصهيوني فحسب، بل بالبحث في إمكانية استمراره ككيان صهيوني أصلاً.
إذا كانت مرحلة القوة لدى الكيان الصهيوني قد تُرجِمت على أرض الواقع، بحروبه خارج حدود فلسطين المحتلة، واحتلاله لمدن وجبهات جديدة، واتخاذه زمام المبادرة لشن تلك الحروب، وقدرته النسبية على تحديد نهاياتها، فإن مرحلة الضعف لديه اليوم تتجلى في أحد أكثر أوجهها وضوحاً، في استماتته الحالية للانغلاق على نفسه بالمزيد من الجدران، وتركيز ممارساته التصعيدية في الداخل الفلسطيني، أما الحديث عن إمكانية «التكيف» مع التوازنات الجديدة، فهو الوهم بعينه.
هل يمكن التكيف؟
بات من الواضح أن هنالك اتجاهاً لدى حكومة العدو لانتهاج سلوكٍ يمكن أن نسميه بـ«تجريب الحظ» مع الدول الصاعدة. من هذا المنطلق، لاحظ عدد من «الباحثين والمحللين الاستراتيجيين» كثرة الزيارات التي قام بها الكيان واستقبلها في فلسطين المحتلة مع كل من الصين وروسيا والهند، إلا أن التفسير الساذج لدى هؤلاء المذكورين يصل في بعض الأحيان إلى اعتبار أن نقل البندقية الصهيونية من «كتف أمريكا إلى كتف القطب الصاعد» هي سلسة إلى حدٍ بعيد، ومرهونة برغبة وإرادة حكومة الكيان.
المتابع لكتابات المحللين الصهاينة بعد كل زيارة من هذا النوع، يمكنه أن يلاحظ بسهولة ذلك التصاعد الحاصل في حالة التخبط والقلق على مستقبل الكيان. حيث لا مكان لكيانٍ اعتمد في وجوده السابق أساساً على روافع إمبريالية، في مرحلة تعددية قطبية، تميل لغير المصلحة الأمريكية، وهو ما يجعله اليوم «مكتفاً» بالمعنى الاستراتيجي، إذ أن «التكيف» مع مقتضيات المرحلة الجديدة يصطدم أساساً مع فكرة الكيان ككل ومع ارتباطه الوثيق بقوى رأس المال المالي العالمي التي تخوض مواجهة واضحة مع القوى الصاعدة دولياً.

الإجهاز على «أوسلو»
عطفاً على ما سبق من انحسار للدور الأمريكي في المنطقة- وفي القضية الفلسطينية ضمناً- فإن قوىً دوليةً وإقليميةً صاعدةً ترى هذا التراجع، وتسعى إلى استثماره بعكس المصلحة الأمريكية، وبالتالي يجب الاستفادة من هذه الحالة شعبياً باتجاهين، الأول: هو نزع أوهام الحفاظ على «أوسلو» كاتجاه عام للحل، كونها تنتمي إلى مرحلة شهدت موازين قوى مغايرة لما ينشأ ويتبلور اليوم، ومن جهة أخرى: الاستفادة قدر الإمكان من الحراك الجاري إقليمياً ودولياً، لتوسيع مساحة الحوار الوطني بغية الوصول إلى رؤية واضحة حيال الحل، بما يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما تؤمنه إلى هذا الحد أو ذاك القوى الصاعدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
825