برلين: قشرة البيضة الأمريكية تتكسّر
لافتة كانت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها عدد من السياسيين الألمان، والتي عبّروا من خلالها عن رفضهم لمنطق العقوبات الأمريكي ضد روسيا، الذي يأخذ من مسألة شبه جزيرة القرم كذريعة له. وفي ظل ظروف الحرب التجارية المقبلة المرتقبة مع الولايات المتحدة، وسعي الأخيرة لتدفيع أوروبا ثمن سياسات مرحلة الهيمنة الأمريكية، فإنه من المتوقع أن تنحو هذه العقوبات منحى شكلياً، في مقابل تمتين أواصر العلاقات الأوروبية مع قوى القطب الدولي الصاعد (بريكس نموذجاً).
تحت ضغط فكرة «التضامن عبر الأطلسي» التي تفرضها الولايات المتحدة نفسها، يضطر الألمان إلى المشاركة – أو التظاهر بالمشاركة على الأقل- في العقوبات المناهضة لروسيا. ومن الأمثلة على ذلك، قصة حديثة لم يجرِ توضيحها بشكل كافٍ، وهي تتعلق بتوربينات سيمنز (نوع من المحركات التي تعمل على الغاز) الألمانية في شبه جزيرة القرم. حيث أحدث الأمريكيون الكثير من الضوضاء حول هذا الأمر، إلا أن عواقبه لم تكن كبيره. وقد تم إيقاف محركات سيمنز الألمانية لتجنب الانتقام الأمريكي، لكن السؤال الأهم هو: هل سيفعل الألمان ذلك في المرة المقبلة أم لا؟ ولماذا تعمل أجزاء من الإدارة الألمانية بجد لإرضاء «الشريك» الأمريكي الذي يهمل برلين ويعتبرها منافسه التجاري والاقتصادي، تماماً كما هو الحال بالنسبة لبكين؟
القفز فوق الخلافات
في مقابلة مع صحيفة «كولنر شتات أنتسايجر» الألمانية، اشتكى وزير الخارجية البلاد، زيغمار غابرييل، من خطاب دونالد ترامب «العدواني بشكل غير معقول»، وأن الرئيس الجديد جعل العالم «أرضاً تنافسية» للولايات المتحدة، حيث لا تزال تبحث عن «أقوى الانتصارات»، مضيفاً: «إن العالم بأسره يشعر بالصدمة بسبب عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الأمريكية».
وقال الوزير الألماني ذاته في مكانٍ آخر: «إننا لا نستطيع أن نراقب الأمن الأوروبي وهو يتحول إلى كومة من أنقاض المعاهدات المخترقة والمكسورة والتي عفا عليها الزمن، إننا بحاجة إلى جهود مشتركة للسيطرة على التسلح، وهذا الأمر سيفيد كلاً من أوروبا وروسيا على حد سواء»، ووفقاً لغابرييل، يمكننا أن نفهم وبعد كل شيء «أن الصراعات العسكرية في القرن ال 21 تقترب من ألمانيا».
وحتى في صفوف القوى السياسية غير المشاركة في الائتلاف الحاكم، ثمة من يشاطر الرأي القائل بتحسين العلاقات مع موسكو، بما في ذلك رئيس «الحزب الديمقراطي الحر»، كريستيان ليندنر، الذي لا ينفك يطالب بـ«إنجاز قفزة فوق خلاف القرم». وفي مقابلة مع صحيفة «ألمانيا الغربية»، قال ليندنر ما تفكر به أغلبية الألمان: «السلامة والرفاهية في أوروبا تعتمد اليوم على العلاقات مع موسكو، و لذلك فإن الصراع حول شبه جزيرة القرم يحتاج إلى التوقف لفترة غير محددة لتطوير العلاقات مع روسيا».
ووفقاً لليندنر: «يمكن الحديث عن ضم القرم والتحركات الأخرى للكرملين، لكن من المستحيل أن نرى أن حل أية قضية أخرى يجب أن يعتمد على تسوية مشكلة القرم، وإلا فلن يكون هنالك تقدم في العلاقات مع روسيا».
فرصة تاريخية أمام برلين
أمام ألمانيا فرصة ملائمة جداً لصعودٍ تاريخي في حال استفادت من الوضع الدولي الراهن، ولم تدخل قواها الحية في معركة كسر عظام مع روسيا والقطب الصاعد عالمياً، فالقوى العاملة في الولايات المتحدة وأوروبا منهكة ومتعبة بسبب الحروب والأزمات، لكن الوضع الألماني يبدو حتى اليوم أقل سوءاً من نظيراتها.
إذا أرادت ألمانيا أن تكسب وزناً دولياً مرموقاً، فعليها عدم تأزيم وضعها، بل الإسراع نحو تطبيع العلاقات مع روسيا في القضية الأوكرانية، وتخفيف الوزن الأمريكي المعطل عملياً لتطبيع العلاقات، فألمانيا ودول أوروبية أخرى عدة، يعلو فيها الصوت نحو تطبيع العلاقات مع روسيا، الذي يبدو أنه اقترب ليس بفعل الرغبة الألمانية فقط بذلك، بل بفعل التوازنات ومنطق الصراع الاستراتيجي والجيوسياسي، الذي يدفع أكثر فأكثر في اتجاه تعميق الهوة والشرخ بين برلين وواشنطن، في مقابل تمتين الروابط الاقتصادية والسياسية مع دول القطب الصاعد، الذي يمدُّ اليوم لألمانيا يد العون للخروج من القوقعة الأمريكية الكابحة للتطور الموضوعي لبلدٍ صناعيٍ متقدم، يحثّ خطاه خارجاً من منظومة الغرب المتأزم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 825