قبل أن تضيع الفرصة الأخيرة
فجأة تفجر موضوع السماح بسفر الأمريكيين المتهمين في قضية تمويل الجمعيات غير المرخص لها بالعمل في مصر.
شهدت مصر حالة لا مثيل لها من الهياج والتهييج. اختلطت كل الأوراق، وبقدر ما كان الحدث صادما وبشدة للقوى الوطنية، بقدر ما تم استخدامه من قوى المتمولين وكل القوى المضادة للثورة لأهداف أبعد ما تكون عن المبدئية. وتم استئناف الهجوم على الجيش والمطالبة بحفظ القضية وعدم محاكمة المتهمين المصريين.
نفس القوى التي أقامت الدنيا ولم تقعدها حينما أثير موضوع التمويل الأجنبي لجماعة 6 ابريل العام الماضي، ليس رفضا للتمويل الدنس وإنما احتجاحا على فضح المتمولين. ثم الإعلان عن رصد 600 جمعية وجماعة تتلقى تمويلا من الخارج. هى هى نفس القوى التي أقامت الدنيا ولم تقعدها حينما تم تفتيش مقار هذه الجهات الأمريكية باعتبار أن ذلك ضد الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني ...الخ، وملأت الدنيا ضجيجا وولولة، وعلى الدرب نفسه كان الاعلام الخاص والحكومي في غالبيته الساحقة ! وكم من وجوه طالعتنا لسياسيين واعلاميين كانوا يسبون الثوار ويدافعون عن الرئيس المخلوع في بداية الانفجار الثوري لكنهم ركبوا الموجة كثوار فيما بعد، يقفزون في أي اتجاه للرياح الأمريكية، يدافعون عن التمويل، و يهاجمون السماح للمتهمين الأجانب قبل محاكمتهم، ويطالبون بعدم محاكمة المتهمين المصريين، كل ذلك بالتزامن!
لعل الصورة بعد أن انقشع الغبار قليلا تكون أقرب الى الوضوح.
لسنوات مضت كانت قضية التمويل الأجنبي مثارة في مصر باعتبارها اختراقاً ضاراً وشديد الخطر على الحياة السياسية المصرية.
قبيل الانفجار الثوري، ومعه، تصاعدت عمليات التمويل (فوق الطاولة ، وتحت الطاولة) لكثير من الجماعات القديمة والجديدة لخدمة أجندات امبريالية وصهيونية معادية للوطن، وشاركت مشيخات النفط بدور واسع في الأمر، وصاحبت مع الموجات الهادرة للتمويل أحداث من كل نوع.
مع تفاقم الظاهرة واكتشاف حجمها وأبعادها بدأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة الحالية في خوض معركة ضد التمويل، وتم رصد 600 جماعة تتلقاه (وهذا هو الجزء الظاهر من جبل الجليد). وأعطيت الأولوية في المواجهة للجهات الأمريكية والغربية التي باشرت نشاطا مكثقا دون الحصول على ترخيص قانوني وفي مجالات غير نشاطها المعلن ، كما افتتحت فروع لها في العديد من المحافظات وتمت مداهمة مقراتها وضبط الأدلة التي تدينها.
لم تستهدف السلطات توظيف المعركة لتحقيق أهداف من قبيل الضغط من أجل المعونة أو ما شابه كما أشاعت أبواق الداخل والخارج. ولكنها خاضتها حفاظا على الأمن القومي للبلاد.
المعركة كانت ولا تزال صراع إرادات. ومورست على مصر ضغوطاً هائلة في ظروف أزمة اقتصادية عاتية، ومشاكل أمنية واسعة ... الخ.
- تم وقف المساعدات التي وعدت بها مشيخات النفط.
- خرجت 10 مليارات دولار في وقت وجيز.
- منعت الصادرات المصرية بإغلاق الأبواب أمامها.
- أوقفت التحويلات إلى مصر عن طريق البنوك الأمريكية.
- وضعت العراقيل أمام الحصول على قروض من المؤسسات المالية الدولية.
بالرغم من ذلك لم تكن الضغوط الدولية والعربية المشار إليها التي صاحبت هذا الصراع، وبكل تأثيراتها السلبية هي الأساس فيما وصلت له الأمور. فلقد مورست مثلها في السابق على مصر في مراحل تاريخية مختلفة ولم تؤت ثمارها.
لكنه في الساعات الأربع والعشرين السابقة للسماح للمتهمين بالسفر، انتهى الموضوع بشكل لا يتفق مع ما تراكم من زخم هائل أنتجته مداهمة مقار هذه الجهات. حيث لاقت ترحيبا جماهيريا واسعا رغم نباح المتمولين ونخب الثورة المضادة وأجهزة إعلامهم.
في هذا اليوم الأخير تمت ممارسة ضغوط «نوعية» تسببت في اتخاذ هذا الإجراء الصادم بشكل لا يتفق على الإطلاق مع الموقف الصارم ضد هذا التمويل الإجرامي.
بينما كان المتهمون يقبعون داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة . توالت الضغوط «النوعية».
- صدر قرار استراتيجي أمريكي باجلاء «الرهائن» الأمريكيين. وكلمة «رهائن» لها دلالاتها.
-على خلفية قيام العدو الصهيوني بحشد قواته على حدود مصر الشرقية . وجه الرئيس الأمريكي الشكر للكيان الصهيوني لدوره في الافراج عن «الرهائن»
ألا تمثل هاتين الواقعتين أدلة على التهديد المباشر باستخدام القوة ضد مصر في ظروفها الصعبة الراهنة ؟
لكن الأمر لم يتوقف عند الضغوط الأمريكية والعربية. فقد أضيفت إليه ضغوط داخلية.
بينما يزعم الإخوان المسلمون أن لا دخل لهم بالموضوع، بل واستنكارهم لسفر المتهمين. فان ما فعلوه يؤكد عكس ذلك تماما.
-إن الإخوان قد وضعوا على موقعهم بيانا «باللغة الانجليزية» يطالبون فيه بالإفراج عن المتهمين. كما طالبوا في البيان ذاته بتعديل قانون الجمعيات وجعل قيامها قانونيا بمجرد إخطار السلطات المصرية .
- لدى زيارة الأمريكي «ماكين» للقاهرة أصدرت السفارة الأمريكية بيانا بعد الاجتماع الذي عقده المذكور مع «خيرت الشاطر» نائب المرشد العام لجماعة الإخوان (ليس قيادياً أو حتى عضواً بحزب الحرية والعدالة). أكد البيان أن الولايات المتحدة تريد حكومة ديمقراطية منتخبة في مصر. وأعقب ذلك مطالبة الاخوان بأن يشكلوا الحكومة بحكم أنهم حزب الأغلبية. رغم أن التعديلات والاعلان (الدستوريين) اللذين أيدوهما بحماس لا يعطون لهم الحق في تشكيل الحكومة باعتبار أن مصر جمهورية رئاسية. أي أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو المخول بتكليف من يشاء بتشكيل الحكومة دون التقيد بالأغلبية البرلمانية .
ويؤكد كلا الأمرين أن صفقة قد تمت بين«ماكين» و «خيرت الشاطر» بشأن المتهمين. أي مقايضتهم بتشكيل حكومة.
لذلك فإن إنكار الإخوان لا قيمة له سوى باصدار بيان يعلنون فيه كذب ادعاءات الأمريكيين. ويقررون وقف الاتصالات بهم والحوار والعلاقة معهم .
...تحققت خطوة كبيرة للأمام. ولكن تبعتها خطوة كبيرة إلى الخلف !!
لكنه ورغم كل التعقيدات والصعوبات والتزييف الذي يغمر الحياة السياسية في مصر، إلا أن الفرصة «الأخيرة» لم تضع بعد.
الأمر يتوقف على تجاوز حالة الارتباك والتردد القائمة، و «الاقتحام» صوب نهج ثوري. أي سياسة ثورية ومشروع جديد (وطني- اجتماعي- اقتصادي - ديمقراطي مع علاقات وتحالفات دولية متكافئة جديدة) أي السير بعكس ما ساد لقرابة أربعة عقود حالكة.
مشروع يستنهض الشعب ويتجاوز النخبة «الرثة» التي لا يعنيها سوى اقتسام كعكة الوطن. ويعيد صياغة الأوضاع الاجتماعية وبالتالي المعادلة السياسية. وحتى يكتسب الوطن المناعة اللازمة في مواجهة الامبريالية والصهيونية وعملائهم الاقليميين والمحليين.
فهل تتشكل ملامح المرحلة الصراعية الجديدة الآن في رصانة وبقوة دفع ملائمة قبل أن تضيع الفرصة الأخيرة؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 544