واشنطن وحدت بين أعدائها وأوقعت نفسها في المصيدة

تحت هذا العنوان أوضح ريتشارد هولبروك سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة في مقالة نشرتها صحيفة (الوطن القطرية) انتقاداته الموجهة للإدارة الأمريكية الحالية والتي يبرز من صياغاتها ومغالطاتها التاريخية والواقعية ومفرداتها التي نوردها كما هي فيما يلي، ولكن بعد الاعتذار من قرائنا للغتها العنصرية والطائفية البعيدة عن ثقافتنا وخطابنا وسلوكنا. غير أن المقالة تكشف من مصدر أمريكي عن المنطق العدواني التفتيتي للمنطقة العربية حتى وإن غلف بالاستياء و«ندب الحظ» وبانتقادات لبوش وعصابته ليظهر أن تلك العصابة هي أوسع من حدود الإدارة الأمريكية الحالية وأن تلك الانتقادات (التي تنطوي على مفارقات تضليلية من شاكلة احتمال تقديم مصر والسعودية دعماً لحزب الله) لا تسعى لخدمة بلدان المنطقة وإنما تستميت في الإبقاء على الهيمنة الأمريكية ودائماً على حساب استعداء ليس فقط الحلفاء المفترضين في أوروبا بل جميع مكونات المنطقة بعد الاستفراد بها والتفريق فيما بينها.

هناك وضع طارئ مشترك يجمع بين الأزمتين في لبنان والعراق، إلا أن سلسلة من ردود الأفعال يمكن أن تتفجر في أية لحظة وفي أي مكان من القاهرة إلى مومباي. فتركيا تتحدث بشكل معلن عن احتمال غزوها لمناطق شمال العراق كي تتعامل مع من تسميهم الإرهابيين الأكراد هناك. وسورية يمكن أن تنجر بسهولة إلى الحرب الدائرة جنوب لبنان، وكذا فإن مصر والسعودية قد تقدمان الدعم تحت ضغوط دعاة الجهاد إلى حزب الله.
وأفغانستان تتهم باكستان بأنها تؤيد القاعدة وطالبان وهناك حروب مستمرة على الحدود المشتركة. كما أن الحرب التي يخوضها الناتو هناك لا تتقدم بشكل جيد. وتتحدث الهند عن إجراءات عقابية ضد باكستان بدعوى وقوفها وراء تفجيرات مومباي، وأوزبكستان بها نظام قمعي استبدادي يقابله نمو في المقاومة الإسلامية. والمستفيد الوحيد في ظل تلك التوترات هي إيران وحزب الله والقاعدة والزعيم الشيعي في العراق مقتدى الصدر الذي نظم قبل أيام اكبر مظاهرة من نوعها في العالم ضد أميركا وإسرائيل وذلك في قلب بغداد حتى مع الدفع بـ 6 آلاف جندي أمريكي إضافي هناك لمنع نشوب حرب أهلية بدأت بالفعل.
وهذا الكم المتزامن من الأزمات يمثل أخطر التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار العالمي منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي تعد المواجهة الوحيدة للقوى النووية في التاريخ.على أن الأزمة الكوبية على الرغم من الخطورة التي كانت تمثلها إلا أنها تتضاءل إلى جوار تهديدات المخاطر الحالية ، فقد نجحت الدبلوماسية في غضون 13 يوما عندما استطاع جون كنيدي أن يقنع نيكيتا خروتشوف بأن يزيل الصواريخ الروسية من كوبا. والمصيدة - على حد تعبير باربارا تاتشمان - التي وقعت بها الولايات المتحدة هذه الأيام يجب أن تأتي في مقدمة الأولويات في السياسة الأميركية. ولسوء الحظ لا يبدو أن الرئيس بوش وكبار مستشاريه يدركون كم نحن قريبون من سلسلة من ردود الأفعال، كما أنه من غير الواضح ما إذا كان لدى الإدارة الأميركية أي إستراتيجية أبعد من مجرد تلك الأفعال التكتيكية.
وعلى واشنطن أن تعي جيدا المدى الشاسع للعواقب التي يمكن أن تترتب على أفعالها والتصريحات التي تخرج عنها والتي تسببت في تراجع غير مسبوق لمكانة أميركا في معظم أنحاء العالم إلى جانب إثارتها لتحالفات جديدة على درجة من الخطورة ضد أمريكا ناهيك عن تشجيع جيل جديد من الإرهابيين. وقد أدى انسحاب أمريكا من الدبلوماسية النشطة في الشرق الأوسط منذ عام 2001 إلى تصاعد العنف وتراجع النفوذ الأميركي. وهناك آخرون متحفزون لسد تلك الفجوة (ولنلاحظ مثلا ذلك البروز المفاجئ لفرنسا كلاعب أساسي في الأزمة الدبلوماسية الحالية).
وأدت السياسة الأميركية دون قصد منها ،وإن كان الأمر متوقعا، إلى التقريب بين أعدائنا. ففي أنحاء المنطقة نجد السنة والشيعة ينحون خلافاتهم جانبا للوقوف صفا واحدا في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل.وفي تلك الأثناء فإن قواتنا في بغداد أصبحت تحت هجمات مشتركة من كلا الجانبين الميليشيات الشيعية والمقاتلين السنة. وإذا استمر الوضع على ذلك فلن يكون هناك مستقبل للوجود الأميركي في بغداد. ولزاما على الرئيس بوش أمام وطنه وأمام القوات التي تضحي بأرواحها أن يعيد فحص سياساته. وقد تكون البداية هي إعادة نشر بعض القوات الأميركية في مناطق أكثر أمنا في شمال العراق كي تمنع تصاعد حدة التوترات بين الأتراك المستائين والأكراد الذين لا يضعون نصب أعينهم سوى هدف الاستقلال. كما أن علينا في الوقت نفسه أن نرسل بمزيد من القوات إلى أفغانستان حيث الأوضاع التي تنتقل من سيئ إلى أسوأ أضف إلى ذلك تقليص البنتاغون لمستوى القوات الأميركية هناك وهو ما يفسره المراقبون أنه انعكاس لتراجع الاهتمام الأميركي بأفغانستان.
وعلى الصعيد الدبلوماسي فالولايات المتحدة لا يسعها أن تنسحب من الملعب تاركة المكان لدول أخرى (ولا حتى لفرنسا) أو الأمم المتحدة. وكان كل وزير للخارجية الأميركية من هنري كسينجر الى وارن كريستوفر ومادلين أولبرايت يجرون مفاوضات مع سورية، فلماذا لا تقوم الإدارة الحالية بذلك بالتنسيق التام مع إسرائيل في كل خطوة؟ فمن الواضح أن ذلك سيصب في مصلحة إسرائيل. ولكن بدلا من ذلك فالمسؤولون في الإدارة يرفضون إجراء حوار مباشر مع دمشق وتقف تصريحاتهم عند قولهم إن "السوريين يعرفون ما يجب عليهم فعله"
وينسحب الأمر على إيران على الرغم من أن ذلك قد يكون أكثر صعوبة. ونتساءل: لماذا تنحي القوة العظمى نفسها جانبا لخمس سنوات وتترك الحوار مع طهران يديره الأوروبيون والصينيون والأمم المتحدة؟ ولماذا يقتصر الحوار على المسألة النووية دون غيرها من القضايا؟ فاحتواء العنف يجب أن يأتي في مقدمة أولويات واشنطن يعقبه محاولة إنهاء التورط الأميركي المزري في العراق بطريقة غير مهينة ودون أن تؤدي إلى فوضى عارمة. وكل ذلك يتطلب دبلوماسية على مستوى فائق. وعلينا أن نكون متأهبين لمشاكل غير متوقعة يمكن أن تأتي من أي جهة سواء تركيا أو باكستان أو مصر أو سورية أو الأردن أو حتى من الصومال، ويبقى الشيء المؤكد أنها سوف تحدث. وبدون إستراتيجية جديدة مبنية على مطالب الأمن القومي الأميركي الملحة فالمؤكد أن تلك الأزمة سوف تتطور إلى الأسوأ.

معلومات إضافية

العدد رقم:
279