قمة الأرض في جوهانسبورغ تؤكد: الأرض كلها..بشراًوبيئة ضد الرأسمالية

وسط إجراءات أمنية استثنائية هدفت إلى تطويق التظاهرات المناهضة للعولمة والسياسات الإمبريالية وتخللتها بطبيعة الحال مصادمات وإصابات في أكبر قمة تنظمها الأمم المتحدة، استضافت مدينة جوهانسبورغ الجنوب أفريقية في الفترة بين 26 آب-4 أيلول «قمة الأرض الثانية» أو ما سمي «بالقمة العالمية للتنمية المستدامة» وذلك بحضور (9300) مشارك بينهم (104) رؤساء دول وحكومات و(4100) ممثل حكومي و(2100) صحفي و(3000) منظمة دولية وحكومية مقابل (30000) موفد مشارك في المنتدى الشعبي غير الحكومي الموازي… 

كم هائل من «الحبر على ورق»

وفي جلسات أقصي عنها ممثلو المنظمات غير الحكومية حاول دبلوماسيو الدول الكبرى خلال اجتماعاتهم مع مندوبي مجموعة الدول الـ77 الممثلة للعالم النامي ردم الهوة مع الجنوب الفقير حول الملفات الشائكة، من المساعدات التنموية التي يعد بها الشمال دون الوفاء بها، إلى التجهيزات الصحية والتغيرات المناخية والسكانية، مرورا بخفض أرقام الفقر العالمي، والعولمة، وفتح أسواق الشمال أمام منتجات الجنوب، والزراعة، والحصول على المياه، وارتفاع حرارة الكوكب وانسحاب واشنطن من المصادقة على اتفاق كيوتو (1997) الناظم لذلك، إلى جانب تسويقها لمنتجاتها المعدلة وراثياً بعيداً عن مبدأ الوقاية الغذائية خدمةً لمصالح الشركات متعددة الجنسيات، وكل ذلك رغم مرور عقد على انعقاد قمة الأرض الأولى في ريو دي جانيرو البرازيلية والتي أصدرت 2500 توصية بقيت بنظر جميع المراقبين حبراً على ورق…

خلافات لا تفسد للود قضية

ووسط خلافات أوربية-أمريكية، أسلوبية وتكتيكية، حول امتناع واشنطن عن تقديم التزامات دولية جديدة، وهي المتمرسة في خرقها وإدارة الظهر لها، أكد ممثلو الاتحاد الأوربي أنه لن يعيد التفاوض على الاتفاقات الموقعة في مونتيري المكسيكية والدوحة القطرية بخصوص المساعدات التنموية وتحرير التجارة العالمية ومسألة دعم الزراعة في الدول الغنية تحت ضغط المزارعين المحليين وضرورات توفير الحماية الاجتماعية لهم، بما يسمح لهذه الدول ضمن منطق معاييرها المزدوجة بتصدير منتجاتها بأسعار مخفضة ومنافِسة، مقابل عراقيل جمركية توضع أمام سلع الجنوب الموجهة للشمال، وهو ما يندرج ضمن سياسة إفقار منهجية لمزارعي دول الجنوب  تترافق مع الطلبات المشبوهة من جانب المؤسسات المالية الدولية لحكومات هذه الدول برفع دعمها المقدم لضروراتها الحمائية الاجتماعية الخاصة، وهو ما يتناقض بدوره مع مبادئ ما يسمى بالتجارة الحرة التي تروج لها دول الشمال…

كلهم إمبرياليون ..!

واتهم ممثلو المنظمات غير الحكومية المفوض التجاري الأوربي باسكال لامي، وهو فرنسي، بأنه أجرى ودون إشراك بقية الأوربيين مساومات من وراء الكواليس مع واشنطن عبر ممثلها التجاري روبرت زويلك بخصوص المساعدة العامة للتنمية والتجارة الدولية ودعم الزراعة بما يعطي الأولوية للعولمة على حساب التنمية المستدامة والبيئة، وبما يتوجه أيضاً نحو خصخصة المساعدات…

سوء توزيع الثروة المنتجة عالمياً

وفي الجلسة الافتتاحية للقمة التي غاب عنها جورج بوش رئيس أكبر دولة مسؤولة إلى جانب تعدياتها الأخرى عن 25% من انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري، أكد ثابو مبيكي رئيس الدولة المضيفة ورئيس المؤتمر أنه ينبغي رأب الصدع بين الأغنياء والفقراء ووضع حد للقوانين البدائية الداعية لبقاء الأقوى.. وأوضح مبيكي أن وجود مجتمع إنساني قائم على فقر الأغلبية وغنى الأقلية وتحول العالم إلى جزر للأثرياء تحيط بها بحار من الفقراء ليس بالأمر المقبول على الإطلاق، داعيا إلى  تخفيف الفقر دون تلويث الكوكب خلافاً لما فعلته الدول الصناعية خلال القرنين الماضيين..

وفي إشارة منه إلى سوء توزيع الثروة المنتجة عالمياً، أضاف مبيكي أنه لو استهلك كل مواطن صيني يومياً كمية النفط الخام التي يستهلكها نظيره الأمريكي حاليا لكانت الصين بحاجة إلى 80 مليون برميل يومياً أي ما يزيد عن الإنتاج العالمي الحالي البالغ 74 مليون برميل في اليوم…

كيف…؟؟؟!!

أما أمين عام القمة نيتين ديساي، وعلى الرغم من تشكيك جميع المراقبين بفرص نجاح القمة التي يفترض أن تكرس التعهدات السابقة التي يتنصل منها الشمال الغني، فقد أطلق، ودون أن يدري أحد كيف أو استناداً إلى ماذا، أطلق تعهداته بأن تسفر القمة «عن أفعال دون الاكتفاء بالكلمات» أي عن نتائج ملموسة لتحقيق «التنمية المستدامة» وتضييق الانقسام الطبقي العالمي بين شمال غني وجنوب فقير دون إلحاق أضرار بكوكب الأرض!!

الرأسمال ينهب الأجيال اللاحقة

وبينما تعد التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة الأوجه الثلاثة لمفهوم التنمية المستدامة يغطي هذا المفهوم بحسب بعض الاقتصاديين الغربيين ثلاثة محاور هي الاقتصاد (أي نمو العالم الثالث وانطلاقه)، والمجتمع (أي اندماج المجموعات الأكثر ضعفاً والتضامن بين الشمال والجنوب)، والبيئة (أي المحافظة على الثروات العالمية من هواء ومياه وطبيعة مع تجديد الموارد الطبيعية من ثروات حيوانية ونباتية).

ومع وضوح عدم اتساقه وانعدام إمكانية تحقيقه في ظل حكم الاحتكارات للعالم وشعوبه، يعمل هذا النمط على المدى البعيد، خلافاً للتنمية التقليدية المبنية على منطق اقتصادي رأسمالي قصير النظر، إذ أن مفهوم التنمية المستدامة الذي ابتكر في عام 1980 على يد هيئة أبحاث اسمها «التحالف العالمي من اجل الطبيعة» تكرس في عام 1987 في تقرير أعده غرو هارلم برونتلاند  رئيس الوزراء النرويجي آنذاك للأمم المتحدة، معرِّفاً فيه المفهوم بأنه «تنمية تلبي حاجات الحاضر بدون تعريض قدرات الأجيال اللاحقة على تلبية حاجاتهم للخطر..».

فلسطين.. وجدلية الطبقي والوطني والأممي

وبين دعاة «انعدام النمو لوقف التدهور البيئي» ودعاة «التهاون مع ترك كل شيء للتطور التقني الكفيل بحل المشكلة لاحقاً» يبقى العالم أسير الاحتكارات وسياساتها على حساب الأرض ومستقبل الحياة البشرية عليها، وهو ما عبرت عنه التظاهرات المناهضة للعولمة، واستنزاف الطبيعة الجائر، وسياسات المالتوسية الجديدة الممعنة في إفقار العالم النامي وتصفيته، وهي تظاهرات لم تغب عنها فعاليات التأييد للانتفاضة الفلسطينية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، والمنددة في الوقت ذاته بخطط واشنطن الهادفة إلى تصدير أزماتها عبر توسيع رقعات حروبها العدوانية لتطال العراق والمنطقة العربية…

وما ارتفاع الأعلام الفلسطينية في سماء جوهانسبورغ إلا دليل على الترابط الجدلي بين القضايا الطبقية على المستوى العالمي وقضايا التحرر الوطني في ظل تضامن أممي يعاود حركة تبلوره وإدانته للكيان الإسرائيلي وسياساته بوصفها أبشع تجسيد لممارسات الرأسمال الاحتكاري الصهيوني والإمبريالي ومتطلباتهما…

بين دوربان وجوهانسبورغ

وكما في كل فعالية دولية شهدتها الأعوام المنصرمة كانت التظاهرات الشعبية في جوهانسبورغ تؤكد اتساع جبهة المعارضة الدولية للسياسات الإمبريالية ومنعكساتها الاقتصادية الاجتماعية على مستوى العالم وبلدانه محذرة من أن الولايات المتحدة، التي تنصّب نفسها سيدة على العالم، تقوده عملياً نحو المزيد من الكوارث..

وفي العام الماضي كانت مدينة دوربان الجنوب أفريقية أيضاً مسرحاً للعزلة غير المسبوقة التي منيت بها واشنطن وتل أبيب بسبب سياساتهما المنافية لأبسط الأعراف الإنسانية والدولية… ولكن عشية بيان ختامي مثير للجدل وقاصر آنذاك عن تلبية مطالب العالم باعتراف الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي بعنصريتهما العدوانية ومحاولتهما إفراغ البيان من مضمونه بعد انسحاب مخز لوفديهما ترافق بتواطؤ أوربي خرجت واشنطن بأحداث 11 أيلول، التي قلبت حتى الخصم إلى «متعاطف إنساني» ممهدةً الطريق أمام محاولتها إعادة رسم الخارطة الجغرافية السياسية للعالم تحت يافطة ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب العالمي…

والآن، وفي جنوب أفريقيا ذاتها، يلقى كل من واشنطن وتل أبيب والشمال الغني عموماً العزلة ذاتها بخصوص التمييز السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني الممارس ضد شعوب الجنوب الفقير ولاسيما لجهة التصعيد الجاري ضد العراق وفي فلسطين المحتلة… ولكن يبقى من غير المعروف تماماً بماذا ستخرج واشنطن لكسر عزلتها المتجددة عشية الذكرى السنوية الأولى لأحداث أيلول؟..

معلومات إضافية

العدد رقم:
181
آخر تعديل على الأحد, 18 كانون1/ديسمبر 2016 16:33