حجر، وورد.. وجوه لبنانية
لكل إنسان عقلية ومعايير يزن بها ما حوله ويحكم من منظورها على الأحداث من الصعوبة بمكان – لكن ليس مستحيلا – تفسير الكيفية الثقافية والذاتية والنفسية التي تختلف بسببها تلك العقلية من شخص لآخر، إذ تتداخل في تكوين العقلية على هذا النحو أو ذاك عوامل مثل التربية والمصلحة الاجتماعية والميول والوراثة وعوامل أخرى مستجدة. بالنسبة لي، كانت هناك - أثناء الحرب الأخيرة على لبنان - نشرتان للأخبار:
الأولى تعرض لي الأنباء الظاهرة من الحرب، أي عدد صواريخ المقاومة، واستبسالها، وحجمونوع العمليات الإسرائيلية الفاشية، ونتائج الضربات المتبادلة. وكانت أنباء المعركة الظاهرة تمثل بالنسبة لي معيارا للحكم.
نشرة الأخبار الثانية، كانت تعرض لي في تقارير جانبية صغيرة، أنباء الانفعال على وجوه بسطاء اللبنانيين، والنبرة التي ينطقون بها ما يقولونه قرب بيوتهم المهدمة، وإشارات أياديهم، ودموعهم أحيانا . كانت تلك أنباء احتشاد الروح في هذا الاتجاه أو ذاك، وبهذا القدر أو غيره. كنت أتابع عدد صواريخ المقاومة التي تسقط على حيفا، ولا أحكم بشيء، إلى أن أرى حجم الانفعالات المتوترة. كان رصد الانفعال بالنسبة لي نبأوخبرا هاما ورئيسيا، لا يقلأهمية عن عدد المعارك. كانت طبيعة تلك الانفعالات مؤشرا أحكم به. وفي هذا السياق لعلي لن أنسى وجه سيدةضخمة كالشجرة تجاوزت منتصف العمر، كانت تقف أمام كاميرا إحدى المحطات التلفزيونية في جلباب أسود منسدل قرب بيتها المهدم بالكامل. وسألها المراسل التلفزيوني عن بيتهاالذي لم يبق منه حجر على حجر، وما تشعر به وهي ترى ذلك، فأشارت نحو الأنقاض تسأل المراسل التلفزيوني: ماذا ترى أمامك؟. أجاب المذيع بهزة رأس اعتيادية دون أن يفهم ما تقصده: أحجارا .. نعم. فهتفت به ملوحة بذراعها أمام عينيه كأنه أعمى تحثه على الإبصار: كلا ليست أحجارا، إنها زهور، وستصبح غدا حديقة كبيرة، سنعيد بناء كل شيء . ثم تقدمت سيدة أخرى شابة نحو الكاميرا قائلة: "الحجر يرمم، لكن إذا تحطمت كرامتنا أصبحنا لا شيء". كنت أتابع مظاهر الشعور بالكرامة كأنها ذخيرة، يقاتل بها الناس جنبا إلي جنب مع ذخيرة المقاومة من صواريخ ومدافع. وبدون ذلك الشعور بالكرامة لا يمكن لأحد، أو جماعة، أو شعب، أن يحقق انتصارا ذاتيا، أو موضوعيا، أو تاريخيا.
فالشعور بالكرامة هو الشعور بأن من حق الإنسان أن يحيا كما يشاء وبالشكل الذي يريده، وحين يصبح ذلك الشعور ظاهرة نفسية عامة، فلابد أن يخطو بالتاريخ إلى الأمام.
الكثيرون يحسبون الحروب والمعارك باعتبارها موازين قوى مادية فحسب، لكن فيتنام الصغيرة استطاعت أن تنتصر على أمريكا، وفقا لموازين قوى معنوية، ووفقا لنشرة أنباء أخرى تخص الروح والانفعال . ومنذ زمن بعيد، وعبر رحلة تاريخية طويلة، أصبح ما هو معنوي لدى الإنسان قوة مادية أهم بكثير من القوة المادية الظاهرة. ولهذا فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقبل بالانتحار، أو الاستشهاد، أي الكائن الوحيد الذي يرضى عن وعي بأن يبيد ما هو مادي - أي بدنه وجسمه - من أجل ما هو نفسي ومعنوي، أي كرامته ومبادئه.
حالات الصمود حتى الموت داخل المعتقلات والسجون في كل بلدان العالم و تاريخه كثيرة، وكلها تفيد معنى واحدا: إن الروح تنتصر على البدن، وكل ما هو معنوي يقبل بالخسائر المادية، لينقذ نفسه، ومغزى حياته . وعبر تلك الخسارة فقط تصبح الروح قوة مادية ملموسة ذات أثر ضخم تعيد ترتيب العالم من حولها .
ونحن في الحياة اليومية قد نرتضي البؤس، أو الجوع، لكننا لن نرتضي كلمة مهينة. لقد مات الموظف الصغير لدى أنطون تشيخوف في قصة "موت موظف" ليس بسبب الجوع، لكن لشعوره بالضآلة والمهانة. والذين ينتحرون فيقصة حب فاشلة، يبيدون وجودهم المادي، من أجل وجود معنوي، والذين يفتدون أوطانهم أيضا يفعلون ذلك.
ولهذا فقط تصبح الأحجار وردا، تستنشق امرأة مقاومة عطره، أو تظل أحجارا عند البعض الآخر.
وقصة تطور التاريخ الإنساني كله هي قصة التقدم من الحيوانية إلي الإنسانية، ومن الجنس إلى الحب، ومن حشو المعدة إلى الشعور بالكرامة، ومن الاستعمار إلى التحرر،ومن الحجر إلى الورد.
■ أحمد الخميسي . كاتب مصري
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 280