محمد الجندي محمد الجندي

شبكات التجسس في لبنان..

الاكتشاف المتتالي لشبكات التجسس يدل على يقظة السلطات اللبنانية، وهذا جيد، ولكنه يعطينا عدداً من الدروس، يتمنى المرء، لو ينصت لها عدد كبير من الناس في المنطقة العربية، ولو نصت لها بوجه خاص أصحاب القرار في منطقتنا المنكوبة.

معرفة العدو هي أمر أساسي في كل صراع، فهي التي تجعل بالإمكان توجيه الضربات إلى النقاط الحساسة، وتوفر مختلف الإمكانات للنصر. العدو المكشوف سهل على الضرب، مهما عظمت تحصيناته، لأن الأسلحة أصبحت فتاكة لدرجة لا تقف في وجهها أية تحصينات.
قوة أي بلد هي طبعاً في مختلف الأدوات التي يملكها، البشرية والاقتصادية والعسكرية، ولكن كل ذلك في حالة الاختراق التجسسي لا يحمي البلد، ويجعل دفاعه هشاًَ.
حروب العصابات غالباً ما تكون عصية على التصفية، لا بسبب ما تملكه من أدوات بشرية ومادية، هي غالباً ضعيفة، وإنما بسبب صعوبة اختراقها، والعصابات المخترقة تصفى بسهولة، لأن خصمها أقوى منها عدة وعدداً.
في البلدان العربية عموماً، في الوقت الذي تعرف فيه إسرائيل كما هائلاً من المعلومات، لدرجة أنها تعرف أسماء الضباط، وخرائط البلدان العسكرية والسياسية والاقتصادية فإن الأطراف العربية بالمقابل، لا تعرف عن إسرائيل شيئاً يذكر. بالعكس تقوم بالتعتيم على كل ما يخصها، على صحفها، ومواقعها الإلكترونية، وحتى أحياناً على اسمها. ففي الحروب الإسرائيلية العربية كانت الجيوش العربية مكشوفة أمنياً، عدا كونها هشة إستراتيجياً، سواء من الزاوية العسكرية البحتة، أو من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية.
إسرائيل تملك إمكانات تجسس تكنولوجية هائلة، فلديها الأقمار، والوسائل الأخرى، مثل الطيارات دون طيار، وتستفيد من شبكات المعلومات الأوربية والأمريكية. أيضاً لديها هشاشة الأمن العربي، فتصريحات المسؤولين كثيراً ما تفضح ما هو مبيت لديهم، والإعلام بقصد، أو من دون قصد، ينشر كثيراً من الأمور، التي لا يعتبرها إسراراً، ولكن الأمن الإسرائيلي يدرسها، ويستنبط منها الكثير. أقوال الناس أيضاً السياسية والاقتصادية والاجتماعية تؤلف مادة دسمة للأمن الإسرائيلي.
والتجسس الفردي ضروري من أجل التفاصيل. لكن هذا التجسس الفردي نوعان، الأول هو التجنيد المباشر على طريقة الشبكات اللبنانية المكتشفة، ولكن النوع الآخر هو الأشمل والأخطر، وهو غير مباشر. العلاقة الاقتصادية قد تتضمن في كثير من الحالات علاقات سياسية. رجال الأعمال العرب الصناعيين، أو التجاريين، علاقتهم وثيقة مع الشركات الدولية، وطواقم هذه غالباً ما تكون لهم انتماءات سياسية، تجعلهم يحاولون خدمتها بالمعلومات، التي يحصلون عليها من شركائهم الاقتصاديين، بل قد تؤدي الشراكة الاقتصادية إلى عمالة مأجورة، وتصبح حينئذ الخدمة غير المباشرة خدمة مباشرة.
أيضاً الانتماء السياسي قد يخدم أمن العدو بشكل غير مباشر، فالانتماء الليبرالي، وهو خيار شخصي قد يكون بريئاً، ولكن باتصاله بالخارج، أو بوكلاء العدو في الداخل يقدم خدمات هي في أحسن الأحوال غير مباشرة. بل عدم الانتماء، الذي يشعر معه المرء أنه حيادي بالنسبة لمختلف التيارات الاجتماعية والسياسية، قد يقدم صاحبه خدمات مباشرة أو غير مباشرة، لا يعتبرها نفسه ذات أهمية.
الزوجات والأصدقاء، ذكوراً أم إناثاً، قد يكونون مادة دسمة لتقديم الخدمات، قصدوا ذلك أم لم يقصدوا. تجارة المخدرات والتجارات غير المشروعة قد تقوم أيضاً بنقل المعلومات، لأن هذه التجارة دولية ومتصلة، أراد المرء أم لا، بالمخابرات الدولية.
قد يكون كل ذلك مخيفاً بالنسبة لأي وطني في المنطقة العربية، غير أن الإدارات العربية، إذا ما أرادت الدفاع عن النفس تستطيع حماية أمنها، لا بالخوف، وإنما بالنزول إلى الميدان، وتوفير إمكانات المواجهة.
الأمن القومي يلتبس في كثير من البلدان الثالثية بأمن القائمين على النظام. مثلاً الرئيس المصري السابق أنور السادات حاسب علي صبري ورفاقه، وهم مجموعة مصرية وطنية، لأنهم زعماً تآمروا عليه، لا على البلد. طبعاً أي حاكم يحاول أن يحمي نفسه، وليس الخلل هنا، وإنما الخلل في الالتباس بين حماية النفس، وحماية الوطن. حماية النفس يمكن أن تضمن بسهولة من خلال الموقف الوطني والديمقراطي. أما إذا ما كسب المرء عداء العديد من الناس، فلا شيء يحميه. رؤساء الولايات المتحدة في جولاتهم الدولية يحاطون بإجراءات أمنية غير مسبوقة براً وبحراً وجواً، وذلك لأنهم معادون للشعوب، فيقتلهم الوهم أكثر مما يقتلهم خطر الاغتيال.
وقد يتناقض الأمن القومي، مع الأمن الشخصي، فتخصيص جزء كبير من إمكانات الدولة للأمن الشخصي يصرف الانتباه عن الأمن القومي، الذي هو أخطر، والذي من المفروض أن يشترك فيه جميع المواطنين.
الأمن الشخصي يحتاج الأجهزة القمعية، بينما الأمن القومي قد يحتاج تلك الأجهزة قليلاً أو كثيراً، مع توجيهها لحماية البناء الاجتماعي والاقتصادي، فالبناء ضعيف التطور، الذي يتصف به العالم الثالث عموماً، يؤلف بؤرة مريضة صالحة لنمو كل أنواع النخر، صالحة أولاً للفساد بكل أنواعه، وصالحة في الوقت نفسه للفتن الطائفية والقبلية والعنصرية، وصالحة أيضاً لنشوء العصابات وانتشار كل أنواع الجرائم، وصالحة أخيراً لتوفير الفرص الكافية للاحتلال وللاستعمار الحديث. إن ما يحدث في الصومال هو الصورة الأكثر بشاعة لانهيار المجتمع، وما يجري في السودان وباكستان وسريلانكا ليس فقط مأساوياً، وإنما هو صورة لما يهدد جميع البلدان الثالثية.
الاستعمار الدولي مقوداً بالإدارة الأمريكية يعمل بكل ما يملك من إمكانات تخريبية وتجسسية ومالية وإعلامية، على إبقاء بلدان العالم الثالث في حالات متدرجة من ضعف التطور الاقتصادي والسياسي، لأن هذا ما يسمح له بالتحكم بمصائر البلدان.
العولمة الاستعمارية لا تستطيع الاستمرار، إلا إذا بقيت الشعوب مهمشة بضعف التطور.
البناء الاقتصادي والاجتماعي المتطور يجعل الطروحات داخل المجتمع مختلفة بعمق، وهو لا يتم دفعة واحدة، وإنما تدريجياً وعبر نضال تعبوي يتصاعد أكثر فأكثر. وهو الوقت نفس هعلاج لمختلف أنواع النخر الاجتماعي، وحماية للأمن القومي.
قد يكون العدو هو الأقوى في البداية، ولكن النضال هو شرارة تتسع باستمرار ويصبح أقوى فأقوى.
مع البناء الاقتصادي والاجتماعي المتطور لا تستطيع أساليب التجسس أن تنال من الشعب، ولا تستطيع القوة العسكرية أن تخمد النضال.
الليبرالية الجديدة، التي تنشرها الإدارة الأمريكية وأدواتها، ليست مجرد خيار يأخذه المرء أو يرفضه، إنها مفتاح لتخريب البلدان اقتصادياً، ولنخر المجتمع سياسياً واجتماعياًُ. وهذا يصح حتى بالنسبة للبلدان الرأسمالية المتطورة، وهي تعاني منه حالياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
405