حِبال التوازنات تلتف حول عنق واشنطن.. و«داعش»!

حِبال التوازنات تلتف حول عنق واشنطن.. و«داعش»!

تصل معركة تحرير الموصل إلى مراحل متقدمة، وسط تقدمات مهمة لقوات الجيش العراقي والشرطة الاتحادية، وبإحاطة وإسناد من قوات حليفة لهما، لكن عملية دخول المدينة بالمعنى الناجز والنهائي لا يمكن أن تتم دون توافق سياسي حقيقي بين القوى المشاركة في هذه العملية، وهو أحد أسباب التأخير الجاري في سياق المعركة.

المشكلة في إحداث التوافق السياسي الكافي لإتمام المعركة، هي في البنية السياسية العراقية نفسها، وتركيبتها المفروضة أمريكياً بعد احتلال العراق، والتي بنيت بشكل يحوّل العراق إلى ساحة لعب إقليمية ودولية، في أية قضية سياسية أو عسكرية- أمنية.

بالإضافة إلى مسألة التركيبة السياسية العراقية نفسها، فإن وجود «التحالف الدولي»، مشاركاً في غرف العمليات العسكرية كمخطط، يعني قدرته على التأثير في مسار المعارك، إضافة إلى وجوده الجوي واللوجستي المشكوك فيه. أي أن الولايات المتحدة منذ احتلال العراق وحتى إنشاء «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب»، قد رسَّخت أدوات الحضور القسري في العراق سياسياً وعسكرياً.

من العسكر إلى السياسة

لكن السؤال المشروع هو، في قدرة واشنطن على البقاء في العراق من حيث النفوذ، إذا ما انتهت ذريعتها «داعش». وهنا، يمكن الدخول في الحسابات الأمريكية في هذه المرحلة من عمر المعركة الكبيرة ضد هذه «الفزاعة»، وهي: معركة تحرير الموصل، وما يحيط بها، والأهم سير عملية مكافحة الإرهاب في سورية، توازياً مع الإطلاق الجدي للحل السياسي لأزمتها على أساس القرارات الدولية ذات الصلة.

إذاً، تدرك واشنطن حقيقة النهاية المنظورة، المقدرة بأشهر، وربما أقل من ذلك، لعملية تحرير الموصل. وليس هذا فقط، بل إن نهاية معركة الموصل التي جمعت حولها الشعب العراقي بأكمله، تعني بداية مرحلة جديدة من الحراك الشعبي العراقي، الذي بدأ قبل معركة الموصل، وانخفضت حدته لمصلحة المعركة الداهمة، وهي تحرير العراق من الإرهاب، لكنه عائد بوجود قاعدته الموضوعية المتمثلة بفساد النخب الحاكمة العراقية، وبالنتيجة، إعادة النظر في نظام المحاصصة الطائفية التي بناها بول بريمر بعناية، لتنتج أرقام فساد وضعت العراق ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم سنوياً منذ احتلاله حتى اليوم، بأرقام تقدر بعشرات المليارات من الدولارات!

وعليه، فإن واشنطن أمام معضلة التعامل مع عراق متغير، فماذا أبقت في جعبتها للعراق؟

المحاولات التي أصبحت واضحة لتأخير وعرقلة تقدم المعركة ضد الإرهاب، كإثارة مسألة مشاركة هذه القوة أو تلك، والإسناد الجوي المتكرر «عن طريق الخطأ» لمقاتلي «داعش»، ومؤخراً، إغفال الجانب الإنساني من ترتيبات الدخول إلى الموصل، لتعقيد العملية أمام القوات المتقدمة، كلها وصلت إلى نهاياتها من حيث التأثير المحوري، باستثناء القضية المتعلقة بالجانب الإنساني، وهي القضية المستمرة حتى اليوم، في وقت تسير فيه المعركة نحو الإنجاز. وعليه، فإن محاولات واشنطن للعرقلة تحولت بثقلها الأكبر إلى الجانب السياسي، مستفيدة مما «أورثه» بريمر للعراقيين.

بناء أزمة على أزمة!

قبل الخوض في إمكانات واشنطن للعب سياسياً، تجدر الإشارة إلى أن الوضع الإقليمي المتغير بسرعة كبيرة، يعني بإحدى نتائجه: أن القوى الإقليمية أيضاً ترى المنطقة برمتها اليوم كساحة واحدة، تريد كل قضية فيها أن تحل بالطريقة التي تناسب تطلعاتها المستقبلية للمنطقة، بما في ذلك معركة الموصل، وهنا يبرز الاهتمام التركي واحداً من المؤشرات على ذلك.

وبالعودة إلى إمكانات واشنطن للتأثير سياسياً على معركة الموصل، وفي ظل هذا التعقيد المحيط بالمعركة، يمكن القول: أن الإدارة الأمريكية الحالية تسعى جاهدة، للوصول إلى إنجاز ما بالمعنى السياسي والعسكري في العراق، ذاك الإنجاز غير المضمون  لتيارات وازنة في هذه الإدارة، بعد وصول الإدارة الجديدة إلى السلطة.

ولا يقتصر هذا الإنجاز المأمول من جانب الإدارة الحالية على توقيت إنهاء معركة الموصل فحسب، بل يتعداها إلى التفكير بالموصل ما بعد «داعش»، في محاولة لتحويل المعركة من إنجاز عراقي إلى حقل ألغام عسكري وسياسي قابل للإدارة والتحكم في وجه العراقيين من جديد. وهنا، تظهر احتمالات العمل بأكبر قدر ممكن على الفالق القومي داخل العراق من بوابة «من يدخل الموصل أولاً؟» و«من سيسيطر على المدينة بعد تحريرها؟»، والذي هو فعلاً مثار خلاف سياسي داخلي عراقي، لكن واشنطن تريده صراعاً على أرض الموصل، يطيل أمد التوتر، وربما ينقله إلى أجزاء أخرى من البلاد، مستفيدة من التوافق الهش أصلاً بين القوى المشاركة في المعركة، ودعمها المزدوج للقوات الحكومية المركزية في بغداد، وقوات «البيشمركة» في شمال العراق.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الخلاف الذي دار بين بغداد وأربيل، أواسط الشهر الماضي، عقب تصريحات رئيس «إقليم كردستان العراق»، مسعود البرزاني، الذي أثار قضية الانسحاب من المناطق التي تسيطر عليها «البيشمركة» من عدمه، ضمن العمليات التي تجري شمال الموصل، وعادت رئاسة «الإقليم»، للتأكيد على التزامها بالاتفاق المبرم مع الحكومة المركزية في بغداد. وإن كان ثمة توافق بين الحكومتين على المهمات الموكلة لكل طرف في سياق المعركة، إلا أن ترسيم الأراضي المسيطر عليها بعد المعركة، هو محل خلاف مستمر، وقد يظهر إلى العلن أكثر فأكثر مع تقدم إنجاز تحرير الموصل.

تغيير إحداثيات المعركة

نقلت وكالات أنباء عن مسؤولين عسكريين عراقيين قولهم: أن الجيش العراقي يبحث إمكانية تغيير استراتيجية معركة تحرير الموصل، لتفادي الوقوع في حرب استنزاف مع عناصر «داعش»، ولسلامة المدنيين.

وأكدت المصادر ذاتها، أنه جرى بحث تغيير أحد العناصر المحورية في الخطة، في اجتماع عقد في 24/تشرين الثاني، لمساعدة المدنيين على المغادرة لإطلاق يد الجيش في ضرب مقاتلي «داعش».

لكن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، ومستشاريه رفضوا المقترح «خشية تعرض السكان الفارين لمذابح على يد التنظيم الذي لا يزال يسيطر على ثلاثة أرباع المدينة».

هنا، تظهر مجدداً «المعضلة الإنسانية» في معارك الموصل، والتي «تحذر» منها بشكل مستمر الأمم المتحدة، بهيئاتها المعنية، لكن في العموم فإن إغفال هذا الجانب في المخطط الأولي للمعارك، قد أدى إلى حالة من البرود في سير المعارك بعد البداية القوية في الأسبوعين الأول والثاني من العملية. وبالتالي، فإن مبادرة القوى العراقية إلى استلام زمام المبادرة في حل هذه القضية، هي ضرورة موضوعية لإتمام العملية، وسط التجاهل الأمريكي الواضح لهذا الجانب من معركة الموصل إعلامياً وعسكرياً، على الأرض وفي غرف العمليات.

وما يمكن قوله أخيراً، هو أن موازين القوى الدولية اليوم، تسمح للعراقيين باتخاذ زمام المبادرة، ليس لتحرير الموصل من التنظيمات الإرهابية فحسب، إنما للوقوف في وجه منظومة التحاصص الطائفي التي تحول دون تحويل المعركة، وبالتالي نتائجها، إلى جامع وطني يطوي خلفه كومة كبيرة من الخلافات الثانوية التي دفع العراقيون ثمنها، كنتيجة للغزو الأمريكي المباشر للعراق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
788