«الموقف من روسيا»: بوصلة الانقسامات الأوروبية
أظهر الاجتماع الأخير للمجلس الأوروبي مرة أخرى، أن العلاقات مع روسيا الاتحادية لا تزال عامل خلاف جدي وحقيقي داخل الاتحاد الأوروبي، وبين دوله التي تنقسم انقساماً حاسماً في موقفها من المواجهة الدولية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
خلال الاجتماع الأخير، الذي حضره إلى جانب السياسيين الرسميين، مجموعة من الخبراء والمحللين، أدى تقييم «التهديدات» المختلفة وتفنيد المصالح بين الدول الأعضاء، إلى إعاقة الجهود المبذولة لإيجاد نهج مشترك تجاه موسكو، حيث يبدو أن الموقف من روسيا يحمل من الحساسية ما يفوق القدرة على صياغة «بيان ختامي توافقي» عادة ما يحمل صياغات عامة وفضفاضة، بهدف الهروب من تبني موقف واضح.
بدا جلياً في الاجتماع الأخير، أن قرار عدم فرض «تدابير تقييدية» جديدة ضد روسيا- كرد مفترض على دورها الحاسم في تغيير الوضع الميداني في حلب- قد لخّص بشكل واضح هذا الانقسام الداخلي الآخذ بالتفاقم.
وحصلت هذه الخطوة نتيجة لمعارضة قوية من بلدان عدة، بقيادة رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، خلال مأدبة عشاء غير رسمية قبل يوم من الاجتماع، حيث رفض رينزي موقف بعض الدول، مثل: فرنسا وألمانيا وبولندا والمملكة المتحدة العدائي اتجاه روسيا بشكل واضح. وهكذا، قاد الدول الأوروبية المعارضة لإعادة صياغة الوثيقة، التي احتوت عبارة «مزيد من التدابير التقييدية»- وهي العبارة المقترحة من قبل مجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي- حيث تم إزالة هذه الجملة من النسخة النهائية للمقترحات.
إنقاذ أوروبا..
والحفاظ على وحدتها
تعكس دبلوماسية «المسار المزدوج للنهج الإيطالي» الحذر الرسمي الإيطالي الكبير الذي يتماشى مع دبلوماسية المسار المزدوج، المتبعة تقليدياً في إيطاليا، فيما يتعلق بالموقف من الكرملين. فمن ناحية، تواصل روما «إدانة» الموقف الروسي اتجاه شبه جزيرة القرم، واستعادتها من قبل روسيا، وكذلك «استخدام موسكو للقوة» في سورية، وهي مواقف الحد الأعلى التي يستطيع أي سياسي أوروبي أن يطلقها.
لكن، ومن ناحية أخرى، تدرك إيطاليا (وهذا واضح من خلال الكم المتزايد من مقالات الرأي في الصحف الإيطالية) أن السبيل الوحيد للحفاظ على روابط مشتركة بين الدول الأوروبية، هو من خلال «إصلاح» الموقف مع روسيا، حيث أن أزمة «البيت الأوروبي» المعبّر عنه بالاتحاد الأوروبي، هي تحديداً أزمة الصيغة التي أوجدتها واشنطن في القارة العجوز، هي أزمة الصيغة التي ضمنت أكبر قدر ممكن من التبعية الأوروبية لقرار المكتب البيضاوي الأمريكي.
لهذا السبب، تثق دول أوروبية عدة (لا سيما تلك التي تعتبر دول أوروبية غير مركزية) بأن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا من شأنه أن يجعل التوصل إلى ملجأ آمن لأوروبا من أزماتها أصعب بكثير. فرغم أن العقوبات الاقتصادية التي وجهها الاتحاد الأوروبي على روسيا بسبب الأزمة السياسية والعسكرية في أوكرانيا، قد كان لها تأثير ما على الاقتصاد الروسي، إلا إنها أظهرت أيضاً أن استراتيجية موسكو باتباع سياسة دولية مستقلة وسيادية لم تتغير. بل على العكس من ذلك، عزز الكرملين سياسته الخارجية القوية والمستقلة داخل البلاد وخارجها على حد سواء.
واشنطن ظاهرة عابرة في أوروبا
من الواضح أن هناك أسباباً داخلية وراء معارضة هذه الدول الأوروبية (التي غالباً لا يُسمع صوتها من قبل الدول الأوروبية الأشد التصاقاً بواشنطن) لتدابير تقييدية جديدة ضد موسكو. أولاً: لأن مجموعة كبيرة من هذه الدول تملك فعلياً وبشكل تقليدي راسخ علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية قوية مع روسيا الاتحادية. وهذا يجعل من الصعب على الرأي العام الأوروبي، تقبل هذه الموجة العدائية القوية والمتواصلة اتجاه روسيا. ذلك عدا عن أن الجمهور الأوروبي، لا سيما فلاحيه وصناعييه المتوسطين، قد دفع بشكل تراجيدي فاتورة العقوبات الجوابية، التي اضطرت روسيا إلى اتخاذها ضد الاتحاد الأوروبي، كإجراء دفاعي.
ولا بد من القول، أنه في هذه اللحظة التاريخية بالذات، لا ينبغي أخذ كل ما يقال حول «العداء لأوروبا الموحدة». فاليوم، وللمفارقة، أغلب من يتحدّون هيمنة الاتحاد الأوروبي وسيادته غير الشرعية على قطاعات واسعة من السكان الأوروبيين، هم يدافعون اليوم عن أوروبا قبل أي شيء آخر، بل ويدافعون عن وحدتها، سواء جغرافياً أو ثقافياً، لأنه لا يجب إغفال أن الحالة التي باتت معها أوروبا حليفاً تابعاً للولايات المتحدة (حتى وإن كان عمرها أكثر من 50 عاماً) هي ليست حالة أصيلة في المجتمعات الأوروبية، لا بل أن حركة مقاومتها في أوروبا لم تتوقف لحظة واحدة. غير أن الظروف الدولية اليوم تسمح بأن يرتفع الصوت المحقّ المطالب بالكف عن العبث بالمصالح الاستراتيجية لأوروبا.
محور أوروبي جديد..
يبغي مصلحته
منذ تأجيج الخلاف بين الدول الأوروبية المركزية وروسيا، بدا واضحاً أن هناك محوراً أوروبياً جديداً يتصرف خلافاً لرغبة هذه الدول المركزية. ولا بد من القول أن من حمل راية الوقوف في وجه هذه الدول هي تحديداً (رؤوس الأموال المحلية التي ترى في العلاقة مع روسيا خلاصاً من قيود الاتحاد الأوروبي، والقيادات العمالية، والفلاحون المتضررون من العقوبات، عدا عن مجموعة واسعة من قيادات الأحزاب، والكتاب، والمفكرين، والصحفيين).
اليوم، يمكن القول أن هذا المحور الأوروبي لا يقتصر على الدول المتاخمة للحدود الروسية فقط، بل كذلك إيطاليا، وقبرص، واليونان، وإسبانيا، والنمسا، والمجر، وسلوفاكيا.. إلخ. إلا أن ما يجب ملاحظته هنا، هو أن هذا «المحور غير المعلن» لا يقوم فقط على الدول غير المركزية في الاتحاد الأوروبي، بل ويجدر الانتباه كذلك إلى الموقف الألماني، الذي يبدو أنه لا يزال غير محسوم. ونتيجة للضغط الألماني المحلي الذي يفكر أن الملجأ الاستراتيجي الوحيد لألمانيا، هو العلاقات الجيوسياسية الممتازة مع روسيا، قد تنحو ألمانيا منحىً مغايراً للمنحى الحالي.
إن النقاش الدائر حالياً حول العقوبات، يوضح الفجوة بين نهجين مختلفين. من جهة، يفضل أنصار التهدئة اختيار «التعامل الانتقائي الهادئ» مع روسيا بشأن مواضيع منفصلة، حيث يكون الحوار بين بروكسل وموسكو أمراً لا مفر منه للحفاظ على السلام والأمن. ويتماشى هذا النهج إلى حد كبير مع المبادئ التوجيهية الخمسة لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع موسكو، التي تم التوافق عليها في آذار الماضي. ومن جهة ثانية، فإن مجموعة ثانية من الدول تفضل الحفاظ على ضغط قوي على روسيا كوسيلة لتفجير التناقضات جميعها في آن واحد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 788