بوش أم كيري؟

حسب أكثر من صديق مقيم في أمريكا، يميل العرب هناك للتصويت لكيري، باعتباره أكثر حظاً في الإطاحة ببوش من رالف نادر العربي-الأصل الذي لا تعطيه استطلاعات الرأي أكثر من اثنين بالمائة من أصوات الناخبين، معظمهم على يسار الحزب الديموقراطي، مما يصب لمصلحة بوش مباشرةً. وقد كانت أصوات رالف نادر القليلة نسبياً في الدورة الماضية أكثر من كافية لترجيح الكفة لمصلحة المرشح الديموقراطي آل غور، وعليه فإن كثيرين من انصار رالف نادر في الدورة الماضية، مثل نعوم تشومسكي، حسموا موقفهم علناً لمصلحة جون كيري في الدورة المقبلة.

وتقوم ضرورة دعم جون كيري حسب صديق آخر على فرضية أن جون كيري أهون الشرين، وأن بوش المسعور أكثر ضرراً للعرب في أمريكا وخارجها، وأنه سينقض على سورية والسودان كما انقض على العراق لو قيض له التجديد! 

بيد أن هذا الموقف يغفل نقطتين: 

1) إن الحزب الديموقراطي حزب متصهين بامتياز، ولم تبلغ العلاقة الأمريكية-الصهيونية يوماً، والنفوذ اليهودي-الصهيوني في واشنطن، ما بلغاه في ظل الرئيس الديموقراطي السابق كلينتون، 

2) إن السياسة الأمريكية، خاصةً الخارجية، ترسمها النخب والمؤسسات قبل الاعتبارات الشخصية، فقد سن أول قانون لمكافحة "الإرهاب" في أمريكا مثلاً عام 1996 في عهد الديموقراطيين، ووافق جل الديموقراطيين في مجلسي الشيوخ والنواب على الإجراءات المتعدية على الدستور الأمريكي المعروفة باسم قانون باتريوت بعيد ضربات 11/9.

بالرغم من ذلك، فلنعترف أن ثمة فروقاً نوعية بين الديموقراطيين والجمهوريين في الوسائل تتناسب مع حاجة النظام ككل. فالجمهوريون يتبنون خط المحافظين الجدد المتمسك بدرجة أكبر باستراتيجيات الانقضاض الهجومي مقابل استراتيجيات الاستيعاب والهضم والاحتواء التي يميل إليها الديموقراطيون. كما أن موقف الديموقراطيين عامة من الأقليات داخل أمريكا (فقط!)، ومنهم العرب، هو موقف أكثر ليناً من موقف الجمهوريين المتشدد تجاههم، والجمهوريون أكثر تطرفاً باتجاه التعصب العنصري الأبيض والأصولي المسيحي، وأكثر جنوحاً لتطبيق البرامج الليبرالية الجديدة المعادية لدعم الفقراء والمحتاجين والعاطلين عن العمل والأقليات.

ولكن يبقى أن الجمهوريين والديموقراطيين وجهان لعملة واحدة في النهاية هي الإمبريالية الأمريكية، فكلينتون قتل نصف مليون طفل عراقي في الحصار، وبوش قتل أقل منه ولكنه دمر ما لم يدمره الحصار من العراق. وعليه فإن المفاضلة ما بين بوش وكيري لا تقل سذاجةً عن المفاضلة مثلاً ما بين شارون وباراك في الكيان الصهيوني، خاصة من ناحية الترويج لأوهام وجود تيارات يمكن التفاهم معها جدياً في المعسكر الأمريكي-الصهيوني.

وحتى لا يطغى الاهتمام بالخطوط العريضة على التفاصيل، فلنفكر جيداً بتأثير سياسات بوش والمحافظين الجدد علينا: الشراسة التي يتعامل بها المحافظون الجدد والإدارة الجمهورية، وتسرعهم في خوض الحروب على عدة جبهات حول العالم، ورفضهم التهاون مع الأنظمة العربية أو السماح بحفظ ماء وجهها، ورغبتهم العارمة بجعل العالم أمريكياً بالقوة العاتية، وتغليبهم العقلية الأمنية على العقلية السياسية، واحتقارهم لقوانين الجغرافيا السياسية والتوازنات الإقليمية، واعتقادهم أن التكنولوجيا العسكرية المتقدمة والموارد الهائلة للدولة الأمريكية تمكنهم من تحقيق أهدافهم الاستراتيجية الكونية بطريقة الكاوبوي الأرعن في أفلام هوليود، وكل سمة أخرى يتميز بها المحافظون الجدد، هي في الواقع أمر حسن لا سيئ بالنسبة لنا. 

مثلاً، لو تعامل شارون إيجابياً مع المبادرة العربية لقمة بيروت التي تعرض التطبيع بدلاً من إسقاطها خلال أقل من أربعٍ وعشرين ساعة باجتياح مواقع السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، لخرج علينا دعاة الاستسلام والتطبيع والتسوية كالدببة من جحورهم التي دفنتهم فيها المقاومة المسلحة من جهة ورفض العدو لأي مساومة من جهة أخرى. 

وأخر ما نحتاجه كأمة اليوم هو إدارة أمريكية تفتح باب التعاطي السياسي مع الوضع العربي بدلاً من التعاطي الأمني-العسكري الذي يستنفر الأمة ويستفزها بخطر الموت ويحجم ويخرس دعاة التسوية والاستسلام.

 بقاء بوش أفضل لنا إذن أولاً لأنه يدخل الإمبراطورية الأمريكية في معارك كبيرة تستنزفها وتعجل بانهيارها، وثانياً لأنه يخلق أفضل الظروف لنشوء حركات مقاومة غير مساومة، فزمن الاحتلال هو بالضرورة زمن المقاومة.

فبعد فيتنام تحررت شعوب كثيرة لم تضطر لدفع مليونين ونصف من الشهداء، أما كوفي عنان فيريد أن ينقذ مصطلح "الشرعية الدولية" وأن تسقط المقاومة العراقية بوش فحسب، والمطلوب هو سقوط الإمبراطورية الأمريكية....

 

■ د. إبراهيم علوش

معلومات إضافية

العدد رقم:
231