الكومندان ماركوس: امبراطوريات المال تصطدم ببؤر المقاومة

 نشرنا في العدد السابق مقدمة بحث كبير قدمه القومندان ماركوس، قائد جيش تحرير زاباتا المكسيكي، ويتألف البحث من سبعة أقسام:
القسم الأول: حول تمركز الثروة وتوزع الفقر، والثاني حول عولمة الاستغلال، والثالث حول الهجرة، الكابوس المتنقل، والرابع، الاتحاد المالي العالمي وعولمة الفساد والإجرام، والخامس القمع القانوني للسلطة غير القانونية، والسادس حول السياسة العظمى والأقزام، والسابع والأخير حول بؤر المقاومة.
ونظراً لطول البحث وعدم إمكانية نشره كاملاً ، نكتفي بنشر أقسام منه، وفي هذا العدد سننشر القسم السادس: «حول السياسة الكبرى والأقزام«. والسابع حول بؤر المقاومة..

 كما قلنا سابقاً فإن الدول الوطنية تتعرض إلى هجوم من قبل المراكز المالية، وهي مضطرة أن تذوب في المراكز الكبرى ولكن الليبرالية الجديدة لا تقوم سياستها فقط على «توحيد» البلدان والمناطق، إن استراتيجيتها هي استراتيجية التحطيم (الإفراغ من الناس وإعادة البناء(، تؤدي إلى تشققات في الدولة الواحدة، وفي هذا مفارقة الحرب العالمية الرابعة التي بدأت من أجل تحطيم الحدود وتوحيد البلدان، فإنها تؤدي إلى زيادة الحدود وتفكيك البلدان التي تختنق بين مخالبها، وبغض النظر عن الحجج والأيديولوجية واللافتات فإن آلية التحطيم العالمية الحالية، هي نتاج لتلك السياسة العالمية التي تعي أنها هكذا تؤكد سلطتها وتوفر لها الظروف المثلى لإعادة إنتاجها على أنقاض الدول الوطنية.
إذا كان هناك شك لدى أحد حول تعريفنا لعملية العولمة في حرب عالمية، فعليه أن يحصي عدد النزاعات التي نشبت بسبب انهيار بعض الدول. إن تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا والاتحاد السوفييتي، مؤشرات على عمق هذه الأزمات التي تحول إلى شظايا ليس فقط القاعدة السياسية والاقتصادية للدولة، بل أيضاً بنيتها الاجتماعية. إن سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة كما هو واقع الحال في الحرب الحالية هي ضمن الاتحاد الروسي مع الشيشان، ترينا سيناريو ليس فقط المآل التراجيدي للمعسكر الاشتراكي الذي سقط في عناق مميت مع «العالم الحر» ولكن يستمر ذلك بنسب مختلفة في كل العالم وتتكرر عملية تفكيك الدول الوطنية. إن الاتجاهات الانفصالية موجودة في إسبانيا:(الباسك، كاتالونيا، غاليسيا)، في إيطاليا (بادوا)، في بلجيكا (فلاندريا)، في فرنسا (كورسيكا) في المملكة المتحدة (اسكوتلندا وويلس)، وفي كندا (كويبك) وهناك أمثلة كثيرة في بلدان عدة من العالم..

لقد أشرنا سابقاً إلى عملية نشوء المراكز الكبرى، والآن نشير إلى تفكيك البلدان، وتجري العمليتان بسبب تخريب الدول الوطنية. فهل الحديث يجري عن عمليتين متوازيتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى؟! أم هما وجهان لعملة واحدة هي العولمة؟!، أم مظاهر اقتراب أزمة عظمى؟!.. أم مجرد ظواهر منعزلة عن بعضها بعضاً؟!..
نعتقد أن الحديث يجري عن تناقض يميز عملية العولمة وهو جوهر النموذج النيوليبرالي. إن تحطيم الحدود من أجل التجارة وتعميم الاتصالات والطرق الكبرى للمعلومات، ومن أجل تعزيز تواجد المراكز المالية العالمية، وبشكل عام كل عملية العولمة تزيل الدول الوطنية وتؤدي إلى تفكيك الأسواق الداخلية، وهي لا تختفي ولا تذوب في الأسواق العالمية، وإنما فقط توطد تفككها وتتكاثر.
إن ما نقوله يظهر وكأنه شيء متناقض، ولكن العولمة تصنع عالماً مقسماً مليئاً بالشظايا المنعزلة الواحدة عن الأخرى والموجودة في كثير من الحالات في حالة مواجهة مع بعضها البعض. وهو وعالم مكون من وحدات منغلقة ذات ارتباط اقتصادي هش مع بعضها بعضاً، إنه عالم المرايا المحطمة التي تعكس عدم فائدة التوحيد العالمي على الطريقة النيوليبرالية.
ولكن الليبرالية الجديدة التي تتنطح لتوحيد العالم لا تفككه فقط، وإنما تصنع مركزاً سياسياً اقتصادياً يقود هذه الحرب. وبما أنه كما أشرنا سابقاً، فإن المراكز المالية تفرض قانونها (قانون السوق) على البلدان ومجموعات البلدان، المطلوب منا أن نحدد من جديد آفاق وحدود السياسة، أي النشاط الاقتصادي ، لذلك من المهم الحديث عن السياسات الكبرى وبالذات على هذا المستوى يتحدد النظام ا لعالمي.
عندما نقول سياسة كبرى لا نقصد الحديث عن عدد المشاركين فيها، إذ أن عددهم قليل وقليل جداً، ولكن السياسة الكبرى تشمل السياسات الوطنية، أي أنها تخضعها لاتجاهها الذي يمثل مصالح عالمية، والتي هي عادة متناقضة مع المصالح الوطنية، وهذه السياسات منطقها منطق السوق بشكل مطلق، أي منطق الربح، وانطلاقاً من هذا المعيار الاقتصادي الإجرامي تؤخذ القرارات حول الحروب والقروض ببيع وشراء البضائع، الاعتراف الدبلوماسي، الحصار التجاري ، الدعم السياسي، قوانين الهجرة، الانقلابات، القمع، الانتخابات، الاتحادات السياسية العالمية، الصدامات السياسية العالمية، الاستثمارات، أي المسائل التي تخص حياة بلدان بكاملها.
إن السلطة العالمية للمراكز المالية العالمية قوية لدرجة أنها تستطيع أن تغمض عينيها عن الطبيعة السياسية لهذه السلطة أو تلك في هذا البلد أو ذاك، هذا في حال إذا ضمنت لها هذه السلطة أن البرنامج الاقتصادي المطلوب في السياسات الكبرى سيبقى دون تغيير.
إن الانضباط تجاه البرامج المالية والاقتصادية العالمية يفرض بأشكال مختلفة على مختلف أشكال الطيف السياسي في العالم الموجود على رأس السلطة.
إن السلطة العالمية تتسامح مع الحكومة اليسارية في أي بقعة من العالم بشرط أن لا تتخذ هذه الحكومة إجراءات تتناقض مع مخططات المراكز المالية العالمية. ولكنها لا تتسامح بأي حال عند توطيد البدائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمنظمات المختلفة.
إن السياسات الوطنية بالنسبة للسياسات الكبرى يصنعها أقزام، الذين يجب أن يتبعوا بدقة إملاءات العملاق المالي، وسيبقى الأمر هكذا حتى ينتفض الأقزام.
وهنا تظهر أمامنا بكل أبعادها ملامح السياسة الكبرى وستفهمون عدم فائدة محاولات إيجاد مبررات لعقلانيتها وأنه دون فض خيوطها المتشابكة، لن يتضح شيء لنا.
بؤر المقاومة
(القسم السابع)

المقاومة تصنع عالماً آخر
السلطة العالمية للمراكز المالية قوية لدرجة أنها تستطيع أن تغمض عينيها عن الطبيعة السياسية لهذه السلطة أو تلك في هذا البلد أو ذاك، إذا ضمنت لها هذه السلطة أن البرنامج الاقتصادي المطلوب في السياسات الكبرى سيبقى دون تغيير.
قبل البدء، أرجو منكم أن لا تخلطوا بين المقاومة وبين المعارضة السياسية، المعارضة لاتقف بوجه السلطة وإنما بوجه الحكومة، وشكلها التام والنهائي الحزب السياسي المعارض، في وقت لا تكون فيه المقاومة، تعريفاً، فقط حزباً. إن منطق وجودها ليس ان تحكم بدورها، وإنما أن تقاوم «توماس سيجوفيا، كتاب الاتهام، المكسيك 1996»
إن آلة العولمة التي يظهر أنه لا يمكن مقاومتها تصطدم مع الواقع الأصم الذي لا يخضع لها. وفي نفس الوقت الذي تقوم به الليبرالية الجديدة بتطوير حربها العالمية، تظهر على مساحة كل الكرة الأرضية مجموعات غير الموافقين وغير الخاضعين.
إن إمبراطورية البورصات المالية تصطدم مع بؤر المقاومة. نعم بؤر، وهذه البؤر من ألوان شتى وأحجام مختلفة وأشكال عديدة، وتشابهها الوحيد في مقاومة النظام العالمي الجديد وجرائمه ضد البشرية التي تحملها في نفسها الحرب الليبرالية الجديدة.إن الليبرالية الجديدة في محاولتها فرض نموذجها الاقتصادي الاجتماعي والثقافي تسعى إلى إخضاع الملايين من الناس والتخلص من كل هؤلاء الذين لا مكان لهم في تقسيمها الجديد للعالم، ولكن ينتج عن هذا الأمر أن هؤلاء لا ينتفضون ويقاومون أولئك الذين يريدون إفناءهم، إن كل أولئك الذين يعتبرون ليس فقط أعداداً إضافية، وإنما أيضاً إلى جانبهم الآخرون يقاومون النظام العالمي ينتفضون ينتظمون، وهم يعترفون أنهم مختلفون، ولكنهم متساوون، وهم إذ يرون أنهم مستثنون من الواقع الحالي، يبدؤون بنسج عملية مقاومتهم للتهديم (الإفراغ من الناس وإعادة البناء).
مثلاً: في المكسيك فإن برنامج تطوير منطقة «إيستمو تيوانتبيك» يضع مهمة بناء مركز عالمي جديد لتخزين وتصريف البضائع، ويضم هذا المركز منطقة صناعية فيها تكرير ثلث النفط المكسيكي وتكرير (88%) من المنتجات النفطية، وستخدمه طرق دولية وممرات مائية مستخدمة المجاري الطبيعية، وكذلك الخطوط الحديدية، يشارك في بنائها خمس شركات منها أربع أمريكية وواحدة كندية ،وهدف هذا المشروع بناء منطقة استراتيجية تأتي بأرباح كبيرة وسيصبح مليونان من السكان المحليين حمالين، حراساً، ومستخدمين وتجار شوارع، وإلى جانب ذلك سينشأ في جنوب شرق المكسيك برنامج آخر من هذا النوع هدفه الحقيقي نقل أراضي الهنود إلى ملكية الرأسمال الذي يريد إلى جانب امتلاكه لها أن يمتلك التاريخ والكرامة الإنسانية والثروات الدفينة في الأرض من يورانيوم ونفط.
إحدى النتائج التي يمكن توقعها لهذه المشاريع هو تفكيك المكسيك بفصل قسمها الجنوبي الشرقي عن باقي البلاد، وإلى جانب ذلك بما أن الحديث يجري عن الحروب، فإن أحد أهداف هذه المشاريع هو القضاء على الانتفاضة المسلحة. إن هدف هذه المشاريع أيضا ًهو خنق الانتفاضة المعادية لليبرالية الجديدة التي بدأت في عام 1994 وهدف العملية هو انتفاضة الهنود في جيش زاباتا للتحرير الوطني، إن الزاباتيين يعتقدون أن الدفاع عن السيادة الوطنية في المكسيك هو جزء من الثورة المعادية لليبرالية الجدية، والمفارقة تكمن في أن جيش التحرير يتهم بتقسيم البلاد، ولكن المقاومة لاتجري فقط في جبال جنوب شرق المكسيك، ولكن أيضاً في أرجاء المكسيك الأخرى في أمريكا اللاتينية، في الولايات المتحدة، في كندا، في أوروبا، في إفريقيا، في أسيا، وفي أستراليا، حيث تتكاثر بؤر المقاومة ولكل بؤرة تاريخها الخاص وخصوصيتها ونقاط تشابهها مع الآخرين ومطالبها ونضالها وإنجازاتها. وإذا كان لدى البشرية أمل في استمرارها وان تصبح أفضل، فإن هذه الآمال موجودة في هذه البؤر التي تتكون تحديدا ًمن هؤلاء المنبوذين والمرفوضين والفائضين عن الحاجة.
إن هذا نموذج لبؤر المقاومة، ولكن لا تركزوا فقط انتباهكم عليه، فهناك نماذج بعدد البؤر وبعدد العوالم الموجودة في العالم، لذلك فابتدعوا ذلك النموذج الذي يروق لكم أكثر. إن غنى البؤر وأشكال المقاومة هو تحديداً في تنوعها.
هناك الكثير من التفاصيل في العمليات العالمية المعقدة والجارية، مثلاً ما يخص وسائل الإعلام، الثقافة، التلوث البيئي، الأوبئة، وهنا أردنا أن نبرز الأهم، ولكن في الأهم الذي جرى الحديث عنه يتبين أنه لا يمكن تجميع العالم في ظل العولمة الحالية، إذ أن أجزاء الكل لا تتكامل، لذلك ولأسباب أخرى يجب صنع عالم آخر، عالم فيه عوالم أخرى، فيه مكان لكل العوالم.
* من جبال جنوب شرق المكسيك جيش التحرير الوطني الزاباتي الكومندان ماركوس.

طلقة من العقل

ملاحظة:
 أحلام يسكنها الحب.. إلى جانبي يرتاح البحر.. طلبت من الشيخ أنطونيو أن يستكشف معي النهر باتجاه التيار.. لم يكن معي طعام.. سرنا ساعات مع التيار المتقلب المزاج في وقت استبد فينا الجوع والحر.. بطلقة واحدة من بندقيته أصاب الشيخ أنطونيو طريدة، وحل لنا مشكلة العشاء في عمق الليل، عندما انتهي من تنظيف بندقيتي (إم 16 عيار 5.65 مم المدى 460 م90 طلقة في المخزن( أجلس لكتابة مذكراتي اليومية.. أترك التفاصيل.. أشير: اصطدمنا مع طريدة، أصابها أنطونيو، ارتفاعنا 350 م عن سطح البحر.. لايوجد مطر.. بانتظار شواء الطريدة أقول: نعم، ليس المهم متى، سنجد دائماً المناسبة كي نعيّد!...
بعد العشاء وأنا نصف غافٍ... أرى أن أنطونيو يأخذ دفتري ويسجل فيه شيئاً ما.. عندما عدت للمعسكر قدمت تقريراً للقيادة، أريتهم دفتري الذي فيه تسجيل لكل ما جرى، هذا ليس خطك قالوا لي وأروني الصفحة الأخيرة حيث كتب الشيخ أنطونيو: «عندما لا يكون لديك بآن واحد العقل والقوة، فاختر العقل واترك للعدو القوة، في كثير من المعارك يمكن ان تنتصر القوة، ولكن في النضال ينتصر دوماً العقل. إن سلطة المالكين لن تستطيع أن تستخلص العقل من قوتها، ولكننا دائماً سنستطيع أن نستخلص القوة من عقلنا«!!..

معلومات إضافية

العدد رقم:
165