هاييتي: اختطاف رئيس من أجل «خير البلاد»! تاريخ المأساة

هاييتي هي أحدى أفقر بلدان العالم. فأكثر من نصف سكانها البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة لا يتجاوز دخلهم حالياً دولاراً واحداً في اليوم. إنّ إحدى الصناعات النادرة في البلاد أشبه بسجنٍ للأشغال الشاقــــة، يعمـــل فيه العمـــال 78 ساعـــة فـــي الأسبوع وبأجرٍ يبلغ 0.68 دولاراً يوميـــاً1*. في هاييتي، متوسط العمر حالياً هو 49 عاماً، بينما يبلغ هذا المتوسط في جزيرة كوبا المجاورة 76.6 عامــــاً.

يــــقدّر البنـــك الــــدولي البطـــالـــة بـ 60% (بل إنّ تقريــــراً للكونغــــرس الأمريكي صدر في العام 2000 قدّره بـ 80%). أكثر من 75% من السكان في هاييتي فلاحون. إنّ المأساة الهاييتية لم تنتج عن القدر. مثالٌ على ذلك: مع تبني الإصلاحات السياسية التي فرضها صندوق النقد والبنك الدوليان في التسعينات، أدّى رفع الحواجز التجارية إلى فتح السوق المحلّية أمام تدفّق الفوائض الزراعية الأمريكية، بما في ذلك الرز والسكر والذرة، ونتج عن ذلك تدمير الاقتصاد الزراعي بأكمله. كانت منطقة غوناييف، التي تتضمّن مزارع واسعة للرز، منطقة إنتاج الرز بامتياز في هاييتي، لكنّها وجدت نفسها تغرق في الإفلاس التام: «في نهاية عقد التسعينات، انخفض إنتاج الرزّ في هاييتي إلى النصف وكان الرز المستورد من الولايات المتحدة يمثّل أكثر من نصف المبيعات المحلية لتلك المادة. كان الفلاّحون قد أفلسوا وارتفع سعر الرز بصورة كبيرة.*2» في بضع سنوات، في التسعينات، أصبحت هاييتي، وهي بلدٌ صغير فقير جداً في الكاريبي، رابع مستوردٍ عالمي للرز الأمريكي بعد اليابان والمكسيك وكندا.

اختطاف رئيس

لم يكن رحيل الرئيس أريستيد قراراً شخصياً «لخير البلاد»، مثلما أكّد الناطق الرسمي باسم جورج بوش في هاييتي، السفير جيمس فولي. منذ متى تريد الولايات المتحدة الخير لهاييتي؟ أكان ذلك في العام 1915، حين حمل المارينز الأمريكيـــون ذهب هاييتي إلى الولايات المتحدة؟ أكان ذلك في تلك السنوات البغيضة حين نصّبت 

الولايات المتحدة حتى العام 1990 مجموعة من الديكتاتوريين العاملين لصالحها، وخاصةً دوفالييه الأب والابن («بابا دوك» و«بيبي دوك»)، اللذين أشاعا الرعب بـ«الأعمام الماكوت». في العام 1991، انتخـــب أريستيد رئيساً للجمهورية على خلفيةٍ ديموقراطية ومناهضة للإمبريالية. كان أريستيد يتمتّع بدعمٍ هائلٍ من الشعب، الذي كان يريد تغييراً جذرياً. إذ رغم بؤسه، كان الشعب الهاييتي على الدوام متمرداً، يحمل أفكاراً شيوعيةً قويةً وكانت كوبا المجاورة تقدّم له مثالاً للأمل. لكن في أواخر العام 1991، أطيح بأريستيد واستبدل بدكتاتورية الجنرال راؤول سيدراس (1991- 1994). حصـــل هـــذا الانــــقـــلاب العسكري بعد ثمانية أشهر فقط من صعود جان برتران أريستيد إلى سدّة الحكم، وهدف جزئياً إلى إلغاء الإصلاحات التقدّمية للحكومة، وإلى إعادة إحلال السياسات الليبرالية الجديدة لعصر دوفالييه. 

فــي حــزيــران 1992، عيّنــت الطغـــمـــة العسكرية لـ«حكومة توافق» مزعومة مارك بازان، وهو موظّف سابق في البنك الدولي، في منصب رئيس الوزراء. سبق لبازان أن تولّى منصب وزير المالية أثناء حكم دوفالييه. وقد «أوصى» صندوق النقد الدولي بتعيينه في هذا المنصب، لكن وزارة الخارجية الأمريكية فرضته فرضاً. انفلت عقال مجازر سياسية ارتكبتها كتائب الموت المدعوة FRAPH بمساندة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لإسكات الاحتجاجات. تحت ظلّ الدكتاتورية العسكرية، حمت الطغمة العسكرية، المدعومة هي أيضاً من المخابرات المركزية الأمريكية، تجارة المخدّرات. أكثر من 4.000 مدني قتــوا، واختفى نحو 300.000 غيرهم، كما غادر أكثر من 60.000 آخرون البلاد بحـراً. في تلك الفترة، لم يتحدّث أحدٌ سوى عن الكوبيين الهاربين من الشيوعية. على الرغم من نظام سيدراس المرعب، طالب الشعب بأريستيد. متى إذن أرادت الولايات المتحدة الخير لهاييتي؟ أكان ذلك حين وافق كلينتون على عودة أريستيد بعد أن فرض عليه إملاءات صندوق النقد الدولي؟ جرى التفاوض على إعادة الحكومة الدستورية مع الدائنين الخارجيين لهاييتي. واضطرت الحكومة الجديدة للمصادقة على الأقساط المتأخرة للقروض التي تدين بها البلاد للمقرضين الأجانب. والواقع أنّ القروض الجديدة التي وافق على منحها البنك الدولي والبنك الأمريكي للتنمية وصندوق النقد الدولي استخدمت لسداد التزامات هاييتي تجاه الدائنين الدوليين. بدءاً من تلك اللحظة، حُكم على البرنامج الاجتماعي كلّه بالموت. أكان ذلك أيضاً لخير هاييتي؟ أكان لخير هاييتي إعلان حكومة بوش فرض حصارٍ اقتصادي عليها وتعليق جميع المساعدات الإنسانية لأكثر بلدان أمريكا فقراً؟ أكان لخيرها مساندة المطالب المتجددة عبر انتخابات انتهكت الدستور؟ لقد سلّحت الولايات المتحدة ودفعت الأموال لكتائب الموت التي تثير الرعب في البلاد، تلك المعارضة الديموقراطية المزعومة. هل كان ذلك أيضاً لخير هاييتي؟

اختطف الرئيس أريستيد في الليلة من 28 إلى 29 شباط 2004، ووضع في طائـــرة ثم أعيد إلى أفريقيا، الأرض التي جلب منها أجداده والسلاسل في أقدامهم. اضطرّ الرئيس أريستيد لمغادرة هاييتي أمام قوة غزوٍ أمريكية، تدعمها فرنسا التي كانت في تلك المناسبة تعيد الصلة مع ماضيها الاستعبادي والاستعماري الذي يعوزه المجد. فرنسا، هذه أيضاً قوةٌ تعمل لخير هاييتي!: ففي الماضي البعيد، ذهب تجّار العبيد الفرنسيون ليصطادوا الأفريقيين، وكبّلوهم بالسلاسل في قاع المراكب، وباعوهم بعد ذلك إلى مستوطنين ومستخرجي سكّر وأصحاب مزارع للقهوة فرنسيين، ممن كان مارات يقول عنهم حين جاءوا ليطالبوا بأماكنهم كمندوبين: «أنا أنصح عبيدهم السود بقطع رقابهم!» نعم، لكن في العام 1803، اختطف توسان لوفيرتور، الذي ارتكب خطيئة تصديق قيم الثورة الفرنسية، ومات في حصنٍ شديد البرودة في جبال الجورا الفرنسية. لقد قضت الثورة التي انطلقت في العام 1791 على يد جان جاك ديسالين وغيره، أولئك الذين قتلوا 20.000 رجل من جيش نابوليون وحصلوا على الاستقلال في العام 1804. في العام 2004، هاهي فرنسا تعود... ليس لسداد ديونها، كما جانب أريستيد الحذر حين طالبها بذلك، بل لاختطاف رئيسٍ منتخب. منذ استقلالها قبل 200 عام، عرفت هاييتي 35 انقلاباً، ارتــكب معظمهـــا بالتواطـــؤ مع الإمبريالية أو بدفعٍ منها. ينبغي التأكيد بأنّ هذه هي المرّة الأولى التي ينجز فيها انقلابٌ على يد جنود ودبلوماسيين أجانب. لم يكن من الممكن احتمال الاضطرابات، فتوجّب التدخّل. لكن من الذي موّل هذه الاضطرابات؟ من الذي حرّض عليها؟

هاييتي وبلدان الكاريبي الصغيرة: درسٌ في الشجاعة

ينبغي أن يكفي وصف ما حدث بأنّه اختطاف كي يدان هذا العمل، دون التساؤل عمن هو أريستيد. نحن هنا في مواجهة الآفة الأساسية لآلية التفكير الغربية، كما نراها حتى في اليسار: بإمكان بلدٍ إمبريالي أن ينتهك دون عقاب سيادة بلدٍ آخر لم يفعل له شيئاً، ويفرض عليه حربه وخياراته الاقتصادية المدمّرة. أولئك الذين يدينون هذا الفعل يضطرون في البداية إلى التصريح باختلافهم عن حكومة ذلك البلد. لكن ينبغي المواءمة بين الانتقادات الموجهة للولايات المتحدة الأمريكية والاعتراف بأنّها «نظامٌ ديموقراطي». ما هي الديموقراطية حين يستطيع رئيسٌ انتخب بصورةٍ سيئة، رئيس 200 مليون شخـــص، أن يتصـــرّف بأسلوبٍ فاشي مع المليارات من الناس على كوكبنا؟ وماذا عن الخديعة التي تتمتّع بتأييد الأغلبية؟

الناس في المنطقة الكاريبية يفكّرون بطريقةٍ مختلفة. لقد ظلّت وسائل الإعلام الكوبية إلى جانب الشعب الهاييتي في محاولةٍ لإنقاذه. وتجرّأت البلدان الخمسة عشر المنضوية تحت لواء الكاريكوم، وهو الاتحاد الاقتصادي الكاريبي، فاستجوبت بوش حول الظروف التي غادر فيها الرئيس أريستيد السلطة. من واشنطن، عارضت حكومة جورج دبليو بوش إجراء تحقيق حول الظروف أدّت إلى تخلّي أريستيد عن السلطة. أعلن أعضاء الكاريكوم على الفور بأنّهم لن يقدّموا فرقاً عسكرية لقوة حفظ النظام التابعة للولايات المتحدة. وكان أولئك الأعضاء قد طالبوا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإرسال القبعات الزرقاء لإعادة الهدوء. لكنّهم لا يقبلون بدعم تدخّل القوات الغربية، ولا باختطاف رئيس. إنّ كمّ الشجاعة الموجودة في إحدى هذه الدول الكاريبية الصغيرة، تلك المجرة من الفراديس المدارية الصغيرة الأنغلوفونية في كثيرٍ من الأحيان، والتي أكبرها جامايكا، هو أكبر مما يوجد في جميع الحكومات الأوروبية مجتمعةً في مواجهة إمبراطورية الولايات المتحدة. منذ سنوات، تقاتل هذه الدول كي تقبل كوبا بصفة مراقب في تجمع ACP الذي يضم: أفريقيا ومنطقتي الكاريبي والهادي، لكنّ أوروبا ترفض خشية إثارة عدم رضى الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنّ تلك الدول دخلت خلف شافيز في الحلف الرافض لاتفاق التبادل الحر لبلدان أمريكا الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على أمريكا اللاتينية. لا، تلك غلطةٌ أخرى، فالحكومات الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، لا تفتقر إلى الشجاعة، بل هي مع حكومة الولايات المتحدة في المعسكر نفسه.

 1* مالك هذا السجن العقابي هو مواطنٌ أمريكي ذو أصل هاييتي، وهو أيضاً أحد قادة «المعارضة الديموقراطية»، لكنه يقيم علاقاتٍ وثيقة مع كتائب الموت التي تدعى FRAPH السيئة الصيت.

2* انظـر Rob Lyon: Haiti-There is no solution under Capitalism ! (هاييتي: لا حلّ في ظلّ الرأسمالية)، مجلة سوشياليست أبيل، 24 شباط 2004، ذكره ميشيل شودوسكي.

 

■ دانييل بليتراش