بصدد مقالات موفق محادين الأخيرة «نقطة نظام» «رد هادئ على خطاب ملتبس»
منذ النصف الثاني للخمسينات وحتى انتهاء الحرب الباردة، كان جل اهتمام الدوائر الأيديولوجية والاستخباراتية الغربية منصباً على تسعير أوار الخلافات الثانوية بين القوى السياسية بمختلف تياراتها (الماركسية، القومية، الدينية) في البلدان النامية وتحويلها إلى خلافات رئيسية ـ صراعية حادة «أي حرب الكل ضد الكل». وقد نجحت ـ للأسف ـ تلك الدوائر في خلق حالة احتراب دائمة بين معظم التيارات السياسية داخل كل بلد وعلى النطاق الإقليمي، استفاد من تلك «الصراعات» أعداء الوطن من كل حدب وصوب، وبالمقابل فشلت جميع المشاريع السياسية التي رفع لواءها المتخاصمون.
مع أن الأستاذ موفق محادين من الأردن الشقيق موصوف بأنه كاتب يساري وعلى دراية كاملة بتاريخ الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، لجأ وبدون مقدمات إلى شن هجوم على تلك الأحزاب تحت عنوان «رسالة إلى الشيوعيين العرب» تاريخ 27/12/2003 عبر «الأنترنت» تتوافق في مضمونها مع نماذج الدوريات المعادية للشيوعية في أواخر الخمسينات، ظاهر الرسالة، الوضع في العراق وموقف قيادة الحزب الشيوعي العراقي من «مجلس بريمر» وباطن الهجوم هو تشويه تاريخ الأحزاب الشيوعية من المغرب العربي حتى العراق، خاصة عندما يلفت انتباه القراء ويثقفهم بأن «اليهود لم يعودوا يسيطرون على الأحزاب الشيوعية العربية. أم أنهم يفعلون ذلك من وراء الستار ونحن لا ندري؟؟» (إشارتا الاستفهام من عند السيد محادين)!!
من حق الأستاذ محادين وغيره من الكتاب والسياسيين والمحللين تناول موقف الحزب الشيوعي العراقي من الوضع في العراق وسبق للأستاذ الباحث حسين العودات أن كتب مقالاً مهماً في صحيفة السفير تحت عنوان «الحزب الشيوعي العراقي: تاريخ مجيد وموقف مؤسف»، ولكن ليس من حق السيد محادين أو غيره الافتراء على تاريخ الحزب الشيوعي العراقي أو اتهامه بما لا يقبله عقل وطني حول ارتباطاته «بالدوائر اليهودية». يبدو أن السيد محادين نسي أو تناسى أن الحزب الشيوعي العراقي بقيادة مؤسسيه الأوائل قد سبق جميع الأحزاب السياسية في الوطن العربي إلى تشكيل «عصبة مكافحة الصهيونية» عام 1934. وقد شارك خيرة أبناء الشعب العراقي من المثقفين الوطنيين في نشاط «عصبة مكافحة الصهيونية» والتحذير من خطورة المشروع الاستعماري على مستقبل المنطقة والأمة العربية. ومن هنا لم تغفر الصهيونية للحزب الشيوعي العراقي هذا الموقف، خاصة أن الصهيونية لم تتمكن من تهجير يهود العراق، رغم كل «عمليات تفجير الكنس المفتعلة في العراق» إلا بعدما قامت الرجعية العراقية الحاكمة آنذاك بنصب أعواد المشانق لقائد الحزب الشيوعي العراقي فهد ورفاقه، وليس بدون دلالة أن عملية «علي بابا» تهجير يهود العراق (130) ألف قد تمت بين عامي 1949 ـ 1951 أي بعد المجازر التي اقترفتها الدوائر الصهيونية ـ الرجعية الحاكمة أنذاك في العراق بحق القادة والكادر الرئيسي في الحزب الشيوعي العراقي. ومن هنا نلفت انتباه الأستاذ محادين وغيره ممن يكررون مقولة «البصمات اليهودية في تأسيس الأحزاب الشيوعية» إن هذه المقولة المكرورة عن عمد أصبحت الآن محط استفادة سياسية بالغة للحركة الصهيونية تماماً مثل استفادة الكيان الصهيوني من مصطلح «معاداة السامية».
كما نذّكر الأستاذ محادين أنه قبل سنوات اشتركنا (ثلاثة شيوعيين، المرحوم هادي العلوي، د. قدري جميل، وكاتب هذه الزاوية) مع الأستاذ الدكتور محمد رمضان البوطي ومجموعة من أساتذة كلية الشريعة، في برنامج تلفزيوني لمحطة أ. ر. تي كان يشرف عليه الدكتور محمد حبش، عنوانه «الشيوعية والإسلام» فلم يتهمنا أحد من محاورينا بما «اتهمنا» به الأستاذ محادين الموصوف «يسارياً» بل كان هناك حوار فكري وسياسي جاد من مواقع مختلفة في إطار الالتزام بأدب الحوار وحق الاختلاف..
إن واقع الحال الذي تعيشه بلداننا وأحزابنا وقوانا السياسية، بعد احتلال العراق، وخطورة التهديدات الأمريكية ـ الصهيونية للجميع، كل ذلك يفرض علينا تجاوز الماضي، لأن الحاضر والمستقبل هما الأولى بالنقاش والحوار والإنقاذ حيث لا يليق بالقوى الوطنية ولا بالمثقفين الوطنيين العودة إلى جدل «بيزنطي» جديد حول قضايا قد حسمت الحياة معظمها، خاصة بعد احتلال بلاد الرافدين واستهداف الجميع بالمخطط الأمريكي ـ الصهيوني.
لعل أشد ما تخشاه الدوائر الإمبريالية والصهيونية اليوم أن تقوم التيارات السياسية الوطنية التي تصارعت بالأمس، بتجاوز خلافاتها ورص صفوفها في حركة وطنية عارمة قادرة على الأخذ بخيار المقاومة الشاملة والدفاع عن كرامة الوطن والمواطن ضد التحالف الأمريكي ـ الصهيوني وعملائه من قوى السوق والسوء التي تتهيأ لجر عربة العولمة المتوحشة إلى بلداننا.