بقلم تييري ميسان بقلم تييري ميسان

 شيء واحد فقط نسيته أمريكا!

في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تحاول الحفاظ على حجة أسلحة الدمار الشامل لتبرير هجومها، ظهرت الدوافع الحقيقية لغزو العراق تدريجياً. استعراض القوة العسكرية، السيطرة التكتيكية على الموارد النفطية، إعادة التشكيل السياسي والاقتصادي للشرق الأوسط، هذه هي الأهداف غير المعلنة لإدارة بوش. بعد ستة أشهر من استيلاء الولايات المتحدة على بغداد، ما هي الحصيلة الإستراتيجية لحملة العراق؟

في خضمّ الفضيحة المتعلّقة بعدم وجود أسلحة دمار شامل، تطرح مسألة معرفة لماذا هاجمت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الأخرى العراق، وهو بلدٌ تراجع ليكون في صفوف الدول النامية بعد حربه الطويلة ضدّ إيران، وحرب الخليج، وعشر سنواتٍ من الحصار.

ومثلما هي الحال دائماً في مثل هذا النمط من القرارات، ليس هناك دافعٌ واحد، بل عدة دوافع لغزو العراق، تتوافق مع مصالح خاصة مختلفة. ونورد في ما يلي أهم ثلاثةٍ منها:

1- اقتصاد الولايات المتحدة مستنزف. فإنتاج البلاد يتناقص، وشراؤها يتزايد. إنّها تدفع ثمن وارداتها بعملةٍ لا دعامة لها: دولارات تطبعها بالمليارات كلّ يوم. كان من المفترض أن تنهار هذه العملة منذ زمنٍ طويل، لكن المصارف المركزية في البلدان الأخرى تواصل استخدامها لها لمجرد أنّ أحداً لا يجرؤ على رفض شيءٍ تأمر به القوة العسكرية الأولى في العالم. وهكذا، أصبحت الولايات المتحدة محكومةً بهروبٍ إلى الأمام: إذ يتوجّب عليها الاستمرار في إخافة العالم إن لم تشأ أن تفلس فجأة. فانخرطت إذن في حربٍ أبدية تتجوّل بها من أفغانستان إلى العراق، وربما قريباً في سورية. 

2-   إنّ السيطرة على الطاقة والمواد الأولية والتزوّد بهما ضروريٌّان للولايات المتحدة كي تتمكن من الحفاظ على الضغط الذي تمارسه على البلدان المتطورة الأخرى. وقد صاغ الدكتور هنري كيسنجر هذه الاستراتيجية على شكل نظرية منذ عشرين عاماً. بمهاجمتها للعراق، كانت واشنطن تأمل في استعادة السيطرة على سوق النفط الدولية. 

لكن إذا كان هذا الضغط الاقتصادي والعسكري يخيف بلداناً معزولة، فإنّه يصطدم بتجمّعاتٍ بين الدول، يمكن أن تكون في وضعٍ يسمح لها بتأمين إمداداتٍ من الطاقة والمواد الأولية. من وجهة النظر هذه، يتوجّب على واشنطن أن تمنع المحاولات الفرنسية-الألمانية المشتركة لخلق أوروبا سياسية قادرة على التنافس مع الولايات المتحدة. ويفاقم هذا الخطر أنّ فرنسا وألمانيا وعدداً من الدول الأوروبية الأخرى قد تبنّت عملةً موحدة تتنافس مع الدولار. لهذا السبب، ومنذ العام 1992، كتب بول فولفوويتز، وهو الرجل الثاني حالياً في وزارة الدفاع الأمريكية، بأنّه ينبغي تخريب أوروبا السياسية وتدمير بلدانٍ صغيرة لإظهار قوة أمريكا ودفع الفرنسيين والألمان إلى العدول عن لعب دور القوة. 

3 ـ أخيراً، ينبغي أن يسمح الهجوم على العراق بـ «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» وفق عبارة رتشارد بيرل، مستشار البنتاغون. إنّ «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» تعني «إدخاله في سياق ديموقراطية السوق». وبعباراتٍ أخرى، فالأمر يتعلّق بإقامة أنظمةٍ سياسية تتخلى عن الدفاع عن مصالحها القومية، بحيث تتمكّن الشركات الأمريكية متعددة الجنسية من السيطرة على جميع ثروات المنطقة. وأثناء عملية التشكيل الاقتصادية والسياسية تلك، يمكن التفكير في حلّ المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية بصورةٍ دائمة، عبر إقامة دولةٍ فلسطينية في منطقةٍ وعرة من العراق وترحيل الفقراء الذين يعيشون في غزة والضفة الغربية إليها. لقد أعلن الكونغرس الصهيوني المجتمع في نيويورك عام 1942في فندق بلتمور مشروع الترحيل ذاك، وجرى إبرازه إلى النور من جديد في العام 1996، حين كان رتشارد بيرل مستشاراً لبنيامين نتانياهو. ومعلومٌ أنّ بيرل هو اليوم مستشار لدونالد رامسفيلد. 

بعد ستة أشهر من سقوط بغداد، أين وصلنا من تحقيق هذه الأهداف؟ 

1- من فرط ما أُعلِن أنّ الشعب العراقي سوف يستقبل الجنود الأمريكيين كمحررين، انتهى الأمر بالبنتاغون أن صدّق بنفسه دعايته. لقد تجاوزه اليوم وضع الفوضى التي تسبب بها. لا يزال مدى الأضرار التي نتجت عن عمليات القصف مجهولاً، ولا نعلم إن كان ينبغي حسابها بعشرات أم بمئات مليارات الدولارات. كما نجهل عدد ضحايا عمليات القصف، الذي تؤكّد القيادة المركزية، على عكس جميع الوقائع، بأنّه قليل. بديهيٌّ أنّ كلّ صاروخٍ يطلق كي يقتل ويجرح. وقد أطلق التحالف آلاف الصواريخ على المدن العراقية. الأرجح أن يكون معظم الجرحى قد ماتوا، إذ إنّ المستشفيات، المحرومة من الأدوية، لم يكن لديها أيّة وسيلة للعناية بهم. لا توجد حتى اليوم أيّة حصيلة رسمية لهذه الحرب، وقد اغتيل سرجيو فييرا دي ميلّو، المبعوث الخاص للأمم المتحدة المكلّف بإعدادها.

بعد أسابيع من القصف المكثّف، خرج الشعب العراقي ببطءٍ من ذهوله، فانشغل بالبقاء على قيد الحياة، في بلدٍ أصبح محروماً على نطاقٍ واسع من المياه والكهرباء. شيئاً فشيئاً، أخذت تنتظم مقاومةٌ ضد الغازي. ويقدّر خبراء أجانب عدد الجنود الأمريكيين الذين أصيبوا أثناء مواجهات ما بعد الحرب بستة آلاف، إصابات 1500 منهم بالغة. لكنّ هذه الأرقام ممنوعة في الولايات المتحدة، حيث لا يحتسب البنتاغون سوى الجنود القتلى، الذين يقارب عددهم المئتين. 

تمارس الولايات المتحدة حالياً سياستين متزامنتين للانسحاب من تلك الورطة. فهي من جهة تحاول أن تخلي مسؤوليتها على حساب الأمم المتحدة كي تؤمّن الأمن في ذلك البلد الذي اجتاحته. ومن جهة أخرى، تعيد تنظيم قوات القمع الصدّامية، إذ ليس هناك غيرها للقيام بمهمة الشرطة. وقد حضر الرئيس الأسبق لشرطة نيويورك ليقوم بتأهيل 40 ألف شرطي عراقي. هؤلاء الرجال، الذين خدموا دكتاتورية صدّام حسين بالوحشية التي نعرفها، تلقّوا دورةً دامت ثلاثة أسابيع،«يفترض أن يكونوا قد تعلّموا أثناءها احترام القانون وحقوق الإنسان». ويجري الاستعداد الآن لتأهيل عناصر الأمن على نفس المنوال. وفي المحصّلة، فإنّ الولايات المتحدة تعيد تشكيل دكتاتورية صدّام حسين بدون صدّام حسين. والحال أنّ العراقيين يتذكّرون بأنّ الولايات المتحدة قد حمت صدّام حسين لفترةٍ طويلة، وبأنّ قوّاته القمعية قد تأهّلت على يد خبراء أمريكيين. وهكذا، فهم يختصرون هذا الوضع بالمثل القائل: «يذهب التلميذ، يأتي المعلّم».

الحرب المتحرّكة موجودةٌ الآن مؤقتاً في العراق. ولن يكون ممكناً استمرار جولة القوات الأمريكية في الشرق الأوسط في سورية إلاّ بعد عودة النظام هناك. 

2- مسألة السيطرة على النفط وخصخصة الاقتصاد: لقد تمّ الالتزام بهذين الهدفين بصورةٍ كبيرة. وجرى تشكيل سلطةٍ مستقلة لإدارة النفط «لمصلحة العراقيين»، لا تخضع لمجلس الحكم الانتقالي، ويسيطر عليها التحالف بصورةٍ مباشرة. ويحتلّ المناصب الهامة في تلك السلطة كوادر من كبرى شركات النفط الأمريكية والهولندية. 

تمّ العهود بإعادة إعمار البنى التحتية التي دمّرها القصف إلى شركاتٍ أمريكية مرتبطة بزمرة بوش، وقد حصلت على حصّة الأسد مجموعة «بكتيل» للأشغال العامة التي يديرها جورج شولتز، وزير الخارجية الأسبق، والشريك الأسبق لدونالد رامسفيلد. أما المستفيد الكبير الآخر من عقود إعادة الإعمار، فليس سوى شركة «هاليبورتون»، التي كان ديك تشيني رئيساً لها قبل أن يصبح نائباً لرئيس الولايات المتحدة.

لكن الأسوأ لم يأت بعد. فأثناء قمة صندوق النقد الدولي التي انعقدت منذ بضعة أسابيع في دبي، أعلن وزير الاقتصاد العراقي خصخصة جميع المؤسسات الحكومية وإلغاء القانون الذي يمنع الأجانب من امتلاك الشركات الوطنية. هذا هو ما يدعى بنزع الاشتراكية عن البلاد. انقضّ المستثمرون الأمريكيون والإسرائيليون على الفرصة. ولتجنّب إخافة الشعب العراقي، وكذلك لتسهيل التعامل معه، كثيراً ما يلجأ هؤلاء المستثمرون إلى رجال أعمال أردنيين يقومون بدور الستار. 

وقد ألحق الحاكم بول ل. بريمر به مجلس الأخصائيين لتنظيم هذا النهب. منذ فترةٍ وجيزة، عيّن لنفسه مساعداً، هو الرئيس البلغاري الأسبق بيتر ستويانوف، الذي سبق له أن سهّل نهب الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات لبلاده، وكذلك ييغور غايدار، نائب رئيس الوزراء الروسي الأسبق في عهد بوريس يلتسين، الذي قسم البلاد إلى عشرة أجزاء، وقدّمها لأصدقائه من الاحتكاريين الذين شكّلوا منظّماتٍ إجرامية هائلة الحجم. 

فيما يتعلّق بتخويف الاتحاد الأوروبي، لم تقدّم الحرب في العراق سوى نصف ثمارها. لقد أصبح الاتحاد مشلولاً بالتأكيد. إنّ توسيعه من 15 عضواً إلى 25 عضواً يجعل من المستحيل تعريف سياسةٍ مشتركة، علاوةً على أنّ المنتسبين الجدد هم في معظمهم أعضاء في حلف شمالي الأطلسي. لكنّ شلل الاتحاد قد شجّع ألمانيا وبلجيكا وفرنسا على التفكير في تقاربٍ متسارع يمكن أن يؤدّي قريباً إلى إنشاء مواطنةٍ مشتركة، وجواز سفر موحّد، وسياسةٍ خارجيةٍ مشتركة.

3- أخيراً، وفي ما يتعلّق بمشروع «بيرل» المتضمّن إقامة دولةٍ فلسطينية في العراق وترحيل السكان من غزة والضفة الغربية، فالأمور لم تعد تتطور والمجتمع الدولي مجنّد لمعارضة هذا المشروع. بل إنّ حكومة شارون نفسها منقسمة حول إمكانية تحقيق هذه الخطة. غير إنّ الجنرال أرئيل شارون نفسه قد فهم بأنّ الولايات المتحدة هي في حالة ضعفٍ مؤقت، فغوصها في المستنقع العراقي يمنعها من تحريك حربها المتجوّلة. وقد عرض خدمات سلاح الجو الإسرائيلي ليقوم بالوكالة بقصف المحطة النووية المدنية العراقية الرئيسية، كما فعلت إسرائيل في العام 1981 حين قصفت مفاعل تموز النووي العراقي. ولعدم توافر الطائرات الحربية التي تمتلك مجال تأثير كافٍ، وكذلك الأمر بالنسبة لأقمار المراقبة الصناعية اللازمة للقيام بهذه الغارة، تفاوض شارون مع الهند على تقديم المساعدة اللوجستية. وبدأ حينذاك يبتزّ إدارة بوش: اتركونا نصفّي عرفات إذا كنتم تريدوننا أن ندمّر المحطة العراقية عوضاً عنكم.

 

بعد ستة أشهر من سقوط بغداد، يبدو تحقيق الأهداف الحقيقية للحرب الأمريكية قريباً. لكن المفارقة تكمن في أنّها قد لا تتحقق بالكامل أبداً، إذ إنّ واشنطن لم تعد تسيطر على العملية التي أطلقتها. لقد نسيت إدارة بوش أحد العوامل: فالشعوب لا تقبل دائماً أن يجري التلاعب بها.