قزوين بيتنا المشترك
إن التوزع الجغرافي لبؤر التوتر على الساحة الدولية يرسم بوضوح خط المواجهة بين القوى الرئيسية على الساحة السياسية المعاصرة. ويمكن القول إن أقصى نقاط التوتر في الشرق تبدأ من أفغانستان وصولاً إلى أفريقيا الشمالية غرباً. ولعل المسألة الأهم في هذا الانقسام الحاد سببها الصراع بين المجموعات داخل العالم الإسلامي وخصوصاً التصادم السني ــ الشيعي، والذي يغذيه التدخل العدواني لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والذي محوره الأساس الصراع الاقتصادي والسيطرة على موارد الطاقة.
كما أن بؤر التوتر الأساسية تساهم في انفجار العنف والتهديدات على الأطراف الإقليمية المجاورة. إضافة إلى ذلك الحالة المتفجرة لمعظم بؤر التوتر الكبرى يرفع منسوب التهديد وخطر بؤر التوتر الساخنة الأخرى. وهكذا فإن المشكلة الإيرانية قد تصبح أكثر دموية بقوة الواقع الاجتماعي ــ الاقتصادي والجغرافي للبلاد خصوصاً بعد العمليات التي نفذها الناتو في العراق.
أن جذب باكستان للانخراط في العمليات العسكرية إلى جانب الهند قد يتحول إلى حجة لاستخدام السلاح النووي. كما أن استمرار الصدامات الإسلامية ــ المسيحية في مصر قد يفتح الطريق إلى حروب دينية على كل مساحة أفريقيا. وهناك مؤشرات إلى إمكانية امتداد الصراع إلى بحر قزوين إذا ما استمر أسلوب حل التناقضات الدولية عبر القوة العسكرية.
وبالقياس إلى بؤر التوتر الأخرى يمكن أن تنجذب القوى الخارجية للعدوان على منطقة قزوين بسبب الموارد والثروات هناك حيث أصبح معروفاً أن الثروات النفطية لبحر قزوين تبلغ حوالي عشرة مليارات طن وحوالي عشرين مليار طن من الغاز. فالثروات الدفينة في قزوين هي الأساسي في النمو الاقتصادي لـ أذربيجان والمناطق الغربية من كازاخستان، والنشاط الاقتصادي لجمهورية تركمنستان.
ولكن قضية نقل الثروات وطرق الإمداد تحولت إلى أهم عناصر المشكلة، أكثر من مسألة إنتاج الثروات الدفينة هناك، وهنا لابد من الإشارة إلى أن التجربة الملموسة للنشاط الاقتصادي تسمح بإعطاء توقعات محددة.
إن الوضع الإيكولوجي لبحر قزوين يتحدد من كونه عبارة عن بحيرة نظامها البيئي محدود، كما أن ثروته المائية ليست كبيرة، الشيء الذي يجعل ظروف معالجة الثروات محفوفة بالمخاطر، خصوصاً أن اي خرق في قواعد السلامة البيئية سينعكس سلباً على النظام البيئي في كل المنطقة، وقد يقتله كلياً. كما أن وجود تيارات مائية في بحر قزوين «بعكس عقارب الساعة من الساحل الشمالي نحو الجنوب يمكن أن تؤدي إلى تلوث خطير في كل النظام النباتي هناك بسبب المخلفات».
إن آراء المختصين تؤكد عدم قدرة التكنولوجيا الحديثة على تجنب رمي قسم من المواد الملوثة في الحوض البحري. ولاشك أن للعمل في المحيطات الكبرى تجرية أخرى، وبإمكانها أن تكون أقل ضرراً في محيط مائي هائل. ومن هنا لا يجوز مقارنة الحجم المائي لبحر قزوين مع مياه المحيطات وهذا يقودنا إلى التنبيه لمخاطر تدمير الطبيعة والكارثة التي ستصيب الأراضي المحاذية لبحر قزوين. وللآن لا أحد يعرف كيف يمكن حل هذه المسألة الخطيرة. ولكن هذا يتعلق بالسياسات التي تتبعها الدول المتشاطئه مع قزوين، وكذلك يتعلق الأمر بالدول الكبرى الراغبة في توسيع محور المواجهات الدولية على حساب بلدان بحر قزوين والقفقاس وآسيا الوسطى.
ولاشك في أن خصوصية معالجة وإنتاج الثروات الدفينة في قزوين، تكمن في أن المنقطة تقع على فالق زلزالي خطير. وهي واقعة (قزوين) بين القفقاس وآسيا الوسطى والجميع يتذكر الهزات الأرضية الخطيرة التي وقعت في 1988 في سبيتاك، و1948 في عاشق آباد، و1956 في طشقند، وهذا ما يقوي موقع وحجج عدد كبير من العلماء المنادين بتقليص استغلال الثروات هناك وتجنب مد خطوط نقل النفط والغاز تحت الماء لأنها ستدمر عند وقوع الزلازل.
ففي الملتقى الدولي الذي أقيم في موسكو عام 2009 حول بحر قزوين لفت الانتباه ماقاله البروفيسور ل.لوبكوفسكي حول وجود عدد من الزلازل المختلفة بالقوة والمستوى في منطقة قزوين. وهناك عامل إضافي وهو أن إنتاج النفط يؤدي إلى خلق الصحارى.
إن وجود المشاكل الإيكولوجية مرتبط بمقياس النموذج الاقتصادي المعاصر في استغلال ثروات الأرض. كما أن وحدة المشاكل البيئية ترتبط بخصوصية المنطقة التي يجري التنافس عليها، وفي حالة بحر قزوين كبيرة لدرجة تفرض حلها كأولوية. إضافة إلى ذلك أن الواقعية السياسية والعلاقات الثنائية بين دول بحر قزوين لم تستطع للآن الوصول إلى مفاوضات جدية حول المبادئ العامة للاستفادة من ثروات بحر قزوين.
المسؤولية عن الاختلافات هنا لا علاقة لها بتناقضات تاريخية بين تلك الدول بل تعود كلياً لعوامل تأثير خارجية. إن خطوط الانقسام في هذه الحالة تتعلق بالموقف من السياسات العسكرية العدوانية والتي يعتبرها البعض سبب كل التناقضات الدولية.
في العام 2002 جرى اقتراح مشروع خط غاز Nabucco»» كمحاولة لإضعاف ارتباط الاتحاد الأوروبي بتوريدات الطاقة من روسيا. ومنذ عام 2006 جرى تفعيل العمل بهذا الخط بعد انقطاعات في إمداد الغاز الروسي لأوربا وقد سميت حينذاك بـ «حرب الغاز» بين روسيا وأوكرانيا. لقد سمي المشروع على شرف الأوبرا جوزيب فيردي والتي سمعها خمسة من مؤسسي «مشروع الغاز» في مسرح الأوبرا بالعاصمة النمساوية، وهي دراما سياسية حول مصير اليهود المطرودين من بابل على أيدي القائد نبوخذنصر «Nabucco».
تقدر استطاعة مشروع الغاز بـ 31 مليار متر مكعب في السنة. ولكن برزت أثناء المحادثات جملة من الخلافات والتناقضات بين الشركاء وكذلك بين الدول التي يمس المشروع بمصالحها بهذا الشكل أو ذاك.
إن اللجنة التي شكلها الاتحاد الأوروبي لم ترفض المشروع من الناحية الرسمية، لكن الخبراء يؤكدون أنه في عام 2011 غيرت اللجنة موقفها، وفي الوقت الراهن تتعامل «بحيادية» تجاه مشروع الغاز. فقد كتبت صحيفة نيورك تايمز في أواخر كانون الأول 2011 عن ظهور منافسين كبار في مشروع الغاز لا يرغبون في استثمار الثروات التركمانية، وسيقلصون نشاطهم على توريدات الغاز من أذربيجان فقط.
«إن بناء فروع الغاز على بحر القزوين سيكون أمراً صعباً، في الخلاف والجدل المستمرين منذ عشر سنوات بين الدول حول الحدود البحرية في قزوين، كما أن روسيا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى تعليق النقاش حول المشروع المقترح، متهمة أوروبا بالتدخل في شؤون الغير» هكذا كتبت نيويورك تايمز.
تحت مصطلح التدخل بشؤون الأخرين يفهم الصحفيون من خلف البحار مدى قلق روسيا حول الحالة البيئية لبحر قزوين، وكذلك الوضع القانوني للمشروع وما يمكن أن يسببه من مشاكل لاحقة ومن الضروري الاعتراف أنه في واشنطن والتي لا تقلق من انتشار المشاكل البيئية في أوروبا وآسيا، معنية بالصراعات المسلحة في ذلك الفضاء وتعتبر من صلاحياتها التدخل فيها. ولكن حتى صحيفة نيويورك تايمز أشارت إلى عدم إنجاز خطوط مشروع الغاز قبل عام 1917. وهناك رأي يقول بأن هناك مجموعة من الإجراءات التي يتضمنها المشروع عبارة عن استفزازات هدفها تعميق التناقضات بين دول بحر قزوين وتغييب الحوار بينها وبالتالي إخراج كل المنطقة من حالة السلام والمساواة. وإذا كان هذا الرأي صحيحاً، فإن مصممي المشروع قد أحرزوا نجاحاً في هذا المضمار. لقد ازدادت كثيراً الاتجاهات السلبية في السنوات العشر الماضية، ولكن معظمها قد استنفد نفسه ويمكننا الحديث عن ظهور عامل جديد معاكس لما كان ألا وهو فهم الجهات المعنية والمشاركة بالحوار حول مصير بحر قزوين وحول ضرورة البحث عن توافقات. ويبقى العامل الأهم المتمثل في الخطر على النظام البيئي وضرورة الحفاظ على الاستقرار في منطقة قزوين وبالمقابل، فإن تحقيق مشاريع خارج إطار الطاقة مثل بناء المجمع السياحي «آفازا» في تركمنستان، يخلق التربة لتعامل اقتصادي مختلف ولكنه أكثر نضجاً تجاه استخدام الثروات في منطقة قزوين.