القدس المحتلة.. وقائع وأرقام

الصهاينة يهودونها، وأمريكا تشتري أرضاً لسفارتها فيها، ومعظم الحكام العرب يتحرجون من انتفاضة الأقصى الباسلة ويطالبون بإعطاء فرصة لشارون، والآن يهللون لتقرير جورج ميتشل علهم يفلحون في وقف الانتفاضة ولجم الشارع العربي عن الإطاحة بعروشهم.

لن نخوض في جدل لاهوتي مع الصهاينة حول هوية القدس العربية، بل سنسوق بشكل مكثف مجموعة من الحقائق التاريخية التي تعارف عليها المؤرخون الموسوعيون ـ وجلهم من الغرب ـ الذين اعتمدوا علم التاريخ وعلم الآثار حتى آخر المكتشفات الراهنة، الكفيلة بدحض المزاعم الصهيونية حول أحقية اليهود بمدينة القدس.

بعد نزوح الكنعانيين واليبوسيين (العرب) من شبه الجزيرة العربية إلى فلسطين في الألف الرابعة قبل الميلاد، وصلوا إلى القدس في عدة موجات انتقالية متلاحقة وقام اليبوسيون وهم قبيلة من الكنعانيين ببناء القدس. وهذا ما يؤكد وجود العرب في القدس قبل العبرانيين بثلاثة آلاف سنة. وعلى ضوء ذلك فإن دخول العرب المسلمين إلى القدس عام 638م لا يعني أبداً أن المدينة أصبحت عربية منذ ذلك التاريخ، لأن العرب هم بناة المدينة في الأصل.

«العهدة العمرية»

وتؤكد التقارير والوثائق التاريخية أن أهل القدس عندما جاءهم الخليفة عمر بن الخطاب كانوا ينطقون باللغة العربية، أي أن عروبة المدينة المقدسة كانت قائمة وراسخة قبل الدخول الإسلامي إليها بأمد طويل. وخلاصة ذلك أن الحق العربي (الإسلامي والمسيحي)، حق لا يتنازع عليه تاريخياً وقانونياً باعتبار أن القدس جزء لا يتجزأ من التراب الفلسطيني. لكن الذي قوّى من ادعاءات الصهاينة بشأن هوية القدس العربية ليس فقط التحالف الصهيوني الإمبريالي، بل التخاذل والتآمر من جانب الحكام العرب وقادة بعض الدول الإسلامية الذين تراجعوا من حيث الجوهر عن أية مقاومة ضد تهويد القدس قبل اغتصاب فلسطين عام 1948 وبعد احتلال القدس الشرقية مع غيرها من الأراضي العربية الأخرى عام 1967.

الأطماع الصهيونية إزاء القدس

منذ الإعلان عن وعد بلفور في 2/11/1917 بدأت الدوريات الصهيونية تتحدث عن القدس وعن إعادة بناء الهيكل المزعوم. وبعد فرض الانتداب البريطاني على فلسطين في 24 نيسان 1920 بدأت عصابة «الهاغانا» المشكلة حديثاً في فلسطين بالاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس العربية. وقد قاوم أبناء الشعب الفلسطيني مؤامرة تهويد القدس بشكل مبرر وخاضوا أشرف المعارك والانتفاضات ضد العصابات الصهيونية وكان أبرزها:

ـ معارك نيسان 1920 في القدس حيث قتل فيها 9 من اليهود مع جرح 250 آخرين واستشهد فيها أربعة فلسطينيين وعشرين جريحاً.

ـ وقوع صدامات دموية بين العرب واليهود في القدس مع دخول أول مندوب سامي بريطاني إلى القدس يوم 1 تموز 1920.

ـ مصادمات بين العرب واليهود في القدس حول حائط البراق يوم 1 أيلول 1925، ترافقت مع إضراب فلسطيني عام دام أسبوعاً وقع العشرات من الجرحى بين صفوف الجانبين.

ـ قيام ثورة القدس ونابلس والخليل في آب 1929 ضد تهويد القدس قتل فيها من اليهود 133 ومن العرب الفلسطينيين تسعين شهيداً.

ـ قيام ثورة 1936 التي دامت 176 يوماً التي لم تهدأ إلا بعد قبول الهيئة العربية العليا برئاسة أمين الحسيني، وساطة الملك عبد العزيز آل سعود والملك غازي الأول ملك العراق والأمير عبد الله أمير شرق الأردن!! والغريب في الأمر أن هؤلاء الوسطاء كانوا من «أشد المعارضين لقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29/12/1947 رقم (181) الذي يوصي بوضع خطة لإقامة دولتين فلسطينية ويهودية في فلسطين وإنشاء نظام دولي خاص لمدينة القدس تحت إدارة الأمم المتحدة».

ـ بعد توقيع أول اتفاقية هدنة إسرائيلية ـ أردنية في /رودس/ في 3 نيسان 1949 وبقاء تقسيم القدس كأمر واقع وبعد إعلان إسرائيل نقل العاصمة من تل أبيب إلى القدس تاريخ 11 كانون الأول 1949 قامت مظاهرة وصدامات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي في القدس الغربية كان بنتيجتها تهجير من تبقى من الفلسطينيين في القدس الغربية بقوة السلاح دون أي دعم عربي، مع استهتار كامل من قبل إسرائيل بعشرات القرارات الدولية التي اعتبرت تغيير وضع القدس باطلاً ولاغياً.

جرائم تهويد القدس الشرقية بعد احتلال 1967

في اليوم الأول لاحتلال القدس الشرقية (7ـ 6 ـ 1967) بدأت قوات الاحتلال بسلسلة من عمليات النسف والهدم للأملاك الفلسطينية داخل السور وخارجه كوسيلة لطرد أعداد أخرى من السكان العرب، وفي يوم 27 حزيران أصدرت الحكومة الإسرائيلية «عدة قرارات» ضمت بموجبها القدس الشرقية إدارياً وسياسياً لإسرائيل. وفي يوم 75 تموز قامت قوات الاحتلال بعملية إحصاء شكلية لسكان القدس الشرقية بعد الاحتلال، وأعلنت مصادرتها لكل أملاك الغائبين ومعظمهم من الذين هجرهم جيش الاحتلال يوم دخوله إلى المدينة وقد بلغت تلك المصادرات الأولية خمسة عشر ألف دونم ومن ضمنها 360 منزلاً.

بعد أقل من شهرين على احتلال المدينة أقامت سلطات الاحتلال أول مستعمرة داخل المدينة من 320 وحدة سكنية بين الحائط الغربي للمسجد الأقصى والدير اللاتيني على أنقاض وتدمير 160 منزلاً عربياً ومصادرة 600 منزل آخر وإجلاء 6500 ساكن عربي. وفي مطلع عام 1961 أصدرت قوات الاحتلال أمراً إدارياً بالاستيلاء على 116 دونماً مربعاً من الأراضي المجاورة للحرم الشريف وكانت هذه العملية بداية عزل المسجد الأقصى عن محيطه من السكان ووضع مخططات التنقيب والحفريات بجوار الحرم وتحته موضع التنفيذ!

في الأعوام 1968 ـ 1970 بدأ الصهاينة بشكل مكثف تنفيذ ما أسموه «خطة القدس الكبرى» وهي تطويق القدس الشرقية بثلاثة أحزمة من المستعمرات على مساحة تصل إلى 18% من مساحة الضفة الغربية البالغة 5500 كيلومتر مربع وقد نفذت هذه الخطة الآن بالكامل وبلغت تكاليفها منذ احتلال المدينة حتى اليوم ـ وحسب المصادر الإسرائيلية ـ حوالي عشرة مليارات دولار جاء معظمها مساعدات من المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية ومن ميزانيات وزارة الاستيطان الصهيونية.

وإذا كان الصمت والتخاذل العربي الرسمي على التهويد التدريجي لمدينة القدس قد أعطى الصهاينة حرية التصرف بالبناء ومصادرة الأراضي وطرد السكان من المدينة ومن القرى العربية الملاصقة لها، فإن غياب أي رد فعل عربي ـ إسلامي حقيقي على الاعتداءات الإجرامية المدروسة والمباشرة على المسجد الأقصى منذ احتلال المدينة حتى اليوم ثلاث عمليات حرق وأربع محاولات تفجير فاشلة + عشرات الحفريات بجوار وتحت المسجد، قد أعطى الصهاينة فرصة استكمال تهويد المدينة ومحاصرة سكانها العرب (عددهم الآن 150 ألف نسمة) الذين لم ينجدهم الحكام العرب إلا ببيانات الشجب والاستنكار ومهادنة الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الرئيسي لإسرائيل والتي اشترت أرضاً لبناء سفارتها في القدس بعد أن صادق الكونغرس الأمريكي بغالبيته الساحقة على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

 

ومن هنا لابد من قول الحقيقة للجماهير وهي أن تهويد القدس ـ منذ أربعة وثلاثين عاماً وحتى اليوم ـ يجري بالتواطؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم الحكام العرب الذين منعوا قيام أي تضامن عربي فعّال ضد الاحتلال وقمعوا شعوبهم حتى تمر المؤامرة لقاء بقائهم على العروش. لكن قضايا الشعوب لا تلغى بالتقادم وما نشهده اليوم في الأراضي المحتلة من بطولات خارقة ضد الاحتلال وما يقدمه الشعب الفلسطيني والمقاومة الوطنية اللبنانية، وأحرار الجولان من تضحيات سيعيد الأمور إلى سياقها التاريخي الصحيح وقد بدأت علائم التحرك الشعبي العربي تفرض نفسها وتزيد من حرج الحكام العرب إزاء استمرار الانتفاضة الفلسطينية رغم كل محاولات وقفها وإجهاضها عبر ما يسمى بالمبادرة الأردنية ـ المصرية أو عبر تنفيذ توصيات تقرير لجنة «السيناتور الأمريكي ميتشل» الذي يتعارض كلياً مع الأهداف الكبرى للانتفاضة وهي: «حق تقرير المصير وحق العودة وإزالة المستوطنات وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس»